في مصر شرعيتان

جرت الدورة الأولى ثم الثانية من الانتخابات المصرية رغم أن ميدان التحرير كان مشتعلاً، وهو ما يزال كذلك ونحن في انتظار الدورة الثالثة والأخيرة من انتخابات “مجلس الشعب”. وكأن مصر تسير في طريقين، أو تؤسس لشرعيتين، شرعية الانتخابات التي تنطلق من مبدأ الديمقراطية، وبالتالي الخطوات التي قررها المجلس العسكري بعد تنحية حسني مبارك. وشرعية الشارع الذي انتفض في 25 يناير 2011 وفرض تنحية مبارك، والذي ما يزال ينتفض لأنه لم يلمس أي تغيير قد تحقق، سوى التغيير الشكلي الذي سوف تنتجه الانتخابات.

من خلال الشرعية الانتخابية، بدأ المجلس العسكري حرباً حقيقية ضد المعتصمين في الميدان وأمام مجلس الوزراء، وتطاول حتى قارب الحالة السورية في العنف الدموي. فتحت حجة الشرعية الديمقراطية، أصبحت شرعية ميدان التحرير مسقطة. حيث ربما قرّر حسم هذه الاستمرارية التي اتسمت بها الانتفاضة، والتي هدأت على ضوء فهم بأن المجلس العسكري سوف يحقق مطالب الشعب، ثم أصبح من الضروري الضغط عليه لتحقيقها عبر مليونيات متتالية. لكن توصل الشباب إلى أن المجلس العسكري يعمل على إعادة إنتاج نظام مبارك، لهذا بدأ النشاط من أجل استمرار الثورة إلى حين تحقيق مطالب الشعب التي لم تكن أصلاً رحيل مبارك فقط، بل كانت إسقاط النظام من أجل سلة مطالب طُرح بعضها في بيان الدعوة لـ”إضراب” 25 يناير، واستكمل فيما بعد في مطالب أكثر جذرية تمس وضع الشعب، ومطلب تشكيل مجلس رئاسي يقود المرحلة الانتقالية، ويعمل على صياغة دستور جديد، ومن ثم يحضّر لانتخابات برلمانية. هذه هي الشرعية التي تبلورت في الميدان، وهي الشرعية التي ما تزال تفرض الاعتصام في الميدان إلى الآن.

لكن كان ثمن تنحية مبارك تحكّم المجلس العسكري في المرحلة الانتقالية، وصياغتها بما يسمح بتكريس سلطته أولاً، ولكي تنتج برلماناً، ومن ثم حكومة، لا يخرجان عن نظام مبارك من حيث النمط الاقتصادي، والمصالح التي تحكمه، وتكريس “ديمقراطية” لا تتجاوز كثيراً “ديمقراطية” حسني مبارك، لكنها هذه المرة توسّع قاعدة المشاركة السياسية من خلال جعل الإسلاميين (الإخوان والسلفيين) هم أساس الشكل السياسي الذي تنتجه، بتحالف مع ليبراليين يمثلون المافيات التي نمت على هامش السلطة.

في هذا السياق جرى الاستفتاء حول تعديل الدستور، والمعركة التي خيضت حول التعديلات، والتي كان الهدف منها تكريس سطوة الإخوان والسلفيين في معركة مفاجئة، وخيضت بشكل غير محسوب من قبل القوى الأخرى، وخصوصاً شباب الثورة. ثم كرّس المجلس العسكري دستورية مرحلته بإعلان دستوري، وحدّد الانتخابات في موعد “قريب” لا يسمح بإعادة بناء الدولة (الأجهزة الأمنية والإدارات) والسياسة (الأحزاب، خصوصاً الأحزاب التي يجب أن تعبّر عن الانتفاضة ذاتها).

لم تنجح “صحوة” الشباب، خصوصاً في تموز (يوليو)، في وقف هذا المسلسل، سوى ربما في تأخير الانتخابات إلى نهاية تشرين الثاني (نوفمبر). والآن تتصادم الشرعيتان، لكن في وضع تبدو فيه شرعية “الانتخابات” أقوى (أي شرعية المجلس العسكري)، لأنها تؤشر إلى انتصار الديمقراطية، وليبدو أن ما يجري في الميدان هو تخريب، وتشويش على الانتصار الذي حققته الثورة، التي هي ليس غير هؤلاء الذين في الميدان. وهذا، ربما، هو “سر” قوة المجلس العسكري وهو يتصدى للثورة. لقد انقلبت الأمور، فبات الشعب هو “الثورة المضادة”، والمجلس العسكري هو الثورة.

خطأ الشباب يتمثّل في أنهم لم يلحظوا بأن الجيش هو غير المجلس العسكري، وأن “دعم” هذا الأخير للانتفاضة لم يكن سوى تصفية حساب مع حسني مبارك، لوقف عجلة التوريث، مع استمرار البنية التي أقامها، والتي درّت عليهم جزءاً مهماً من الدخل الوطني.

لكن يبدو واضحاً بأننا إزاء اصطراع بين شرعيتين؛ شرعية الانتخابات التي صيغت من أجل تكريس استمرار الماضي، وشرعية الميدان التي تؤسس للمستقبل. ولا يبدو أن الوضع قد وصل إلى انتصار إحداهما، رغم “المشروعية” التي تلف الانتخابات لأنها تشير إلى تحقيق ما هو “ديمقراطي”، مع أن الشرعية الأخرى هي شرعية الثورة ذاتها التي تجري “سرقتها”. فالصراع هنا هو بين إعادة إنتاج البنية ذاتها، وتغيير كلي لوضع الشعب من حيث تغيير النمط الاقتصادي والبنية السياسية التي عبّرت عنه.

المصدر: الغد

أضف تعليق