اليسار وتجاوز الرأسمالية

كانت بلدان عديدة، خصوصاً في أميركا اللاتينية، تندفع “نحو اليسار” مع بداية القرن الجديد. وأوصلت الانتخابات عدة رؤساء منه إلى سدة الحكم. عبّرت الظاهرة عن الأزمة التي تعيشها هذه البلدان، نتيجة النهب الطويل الذي مارسته الرأسمالية، وأفضى إلى الفقر والتهميش والبطالة، ككل ما يجري حين تسيطر الرأسمالية، في ظل سياسات تعممت في أميركا اللاتينية، منذ سبعينيات القرن العشرين، وفرضت اللبرلة خياراً وحيداً، فراكمت الفقر والمديونية.
والآن، نجد أن بلدان جنوب أوروبا تعاني من أزمة كبيرة نتيجة المديونية (عانت منها بلدان أميركا اللاتينية) التي فرضت وصول هذه البلدان إلى حافة العجز. وبالتالي، قاد إلى أن تفرض الدول والبنوك الدائنة شروطاً قاسية، من أجل تحصيل الفوائد المترتبة على الديون، تمثلت في سياسة التقشف التي عنت إفقار الطبقات الأفقر، والفئات الوسطى. الأمر الذي أدى إلى أن يميل الشعب إلى انتخاب اليسار، يسار جديد متشكل من مجموعات يسارية وشباب يساري ونقابات، تبلور في “أحزاب”، كما في اليونان (حزب سيريزا) وإسبانيا (حركة بديموس)، وربما يتبلور في بلدان أخرى. وصل إلى السلطة في اليونان، ويمكن أن يصل إلى السلطة في إسبانيا قبل نهاية العام.

في أميركا اللاتينية
لكن، ما يبدو واضحاً منذ تجارب أميركا اللاتينية، وما يظهر الآن، أن اليسار الذي وصل إلى السلطة لا يمتلك حلاً يسارياً، على الرغم من أن نجاحه بني على أن الشعب يريد حلاً يسارياً، ينهي النهب والاستغلال والفقر والبطالة والتهميش، حيث إن ما تحقق في بلدان أميركا اللاتينية (البرازيل وفنزويلا وأورغواي وبارغواي، والأرجنتين، وغيرها) إصلاح محدود في الاقتصاد، هدف إلى أن يخفف فقر الشعوب الأصلية وتهميشها، وكذا بعض الفئات الفقيرة، في ظل استمرار السياسة الرأسمالية، وحتى الإيغال في تعميم اللبرلة، كما في البرازيل. فقد حكم حزب العمال البرازيلي منذ بداية القرن الجديد، في ظل مديونية عالية وعجز مالي، وإفقار شديد، خصوصاً للشعوب الأصلية والسود. واستطاع أن ينهي المديونية، وأن يحقق تحسيناً في وضع الفقراء. وتحسّن الوضع الاقتصادي للبرازيل، ونهضت الصناعة، لتبدو أنها تسير في مسار أن تكون قوة عالمية. لكن، ما يبدو الآن أن الأزمات باتت تطل من جديد، حيث تعمقت الخصخصة، وأصبح الرأسمال الخاص يسيطر على معظم الاقتصاد، بما في ذلك الطرق والمياه، أي أصبح يبحث لاستغلال البنية التحتية كلها، بما في ذلك الصحة والتعليم. ولهذا، بات الحكم “اليساري” يعيش مأزقاً، وبات الشعب يسير نحو المواجهة معه.

“ما يبدو واضحاً منذ تجارب أميركا اللاتينية، وما يظهر الآن، أن اليسار الذي وصل إلى السلطة لا يمتلك حلاً يسارياً، على الرغم من أن نجاحه بني على أن الشعب يريد حلاً يسارياً”

في فنزويلا، حيث رفع هوغو شافيز شعار اشتراكية القرن الواحد والعشرين، وكان يعتبر نفسه “ماركسياً”، ويريد تحقيق الاشتراكية. لم يفعل سوى تحسين وضع السكان الأصليين، ووضع الفئات المفقرة، على الرغم من امتلاك فنزويلا النفط. ولقد بات النظام الذي بناه يتآكل، ويعيش مأزقاً، حيث لم يجرِ التقدم نحو حسم الصراع مع البورجوازية بالقوة، ولم يؤسس اقتصاداً اشتراكياً، أو يمكن أن يكون بديلاً عن الرأسمالية. وأخذت مشكلات مجتمعية تتفاقم، مع اقتصاد مأزوم، وفقر أخذ يعود بسرعة. وفي وضع تبدو الرأسمالية قوية، وتتهيأ للوثوب إلى السلطة. وبدا مادورو شبحاً يسير نحو محو الطموحات الكبيرة، أو يظهر العجز عن تحقيق تلك الطموحات. ولهذا، بات إما أن يتحوّل إلى الشكل البرازيلي، أن يظل “اشتراكياً” بالاسم، ويعيد تعزيز دور الرأسمال، أو يسقط في انتخابات ستأتي بالرأسمالية إلى السلطة.
في بلدان أخرى، مثل الإكوادور وباراغواي، جرى تحسين وضع السكان الأصليين، وتحسين الوضع الاقتصادي، لكن أيضاً تعود أزمات الفقر والتهميش واستغلال الرأسمال، لكي تفعل في الشعب ما يدفعه إلى المقاومة. في الأرجنتين، ربما أوقف اليسار انهيار البلد، لكن ليس من حلول مطروحة سوى تحسين جزئي في وضع الفئات المفقرة. وفي تشيلي، قام الحزب الاشتراكي بأكبر عملية خصخصة.
يرتبط الأمر هنا بـ “وعي” يحكم هذا اليسار، فقد انطلق من أنه لا يستطيع “الخروج” من العالم القائم، عالم الرأسمالية، وليس ممكناً أن يكون خارج العولمة، وبالتالي، ليس من طريق أمامه سوى “الإصلاح المتدرج” وتحسين أحوال الفئات الأفقر. إذن، هو “إصلاح” في ظل النمط الرأسمالي المهيمن، ويمكن القول إن الدولة، وفق هذا المنظور، تتحوّل إلى “جمعية خيرية”، لأنها تركز على “تحسين معيشة” الفئات الأفقر، ولا ترى أن الأمر يتعلق بما هو أكبر من ذلك تحقيق هذا التحسين بالذات، أي تجاوز الرأسمالية، حيث ليس من إصلاح في ظلها.
لهذا، نلمس خبو ألق تلك التجارب التي كانت تظهر تجارب جديدة وملفتة ليسار يستطيع الوصول إلى السلطة بالانتخابات. وبالتالي، إنها الشكل الجديد لليسار الذي يستطيع أن يكون المنتصر. وأصبح المطلوب تشكيل يسار تشبهها، فهذه هي “اشتراكية القرن الواحد والعشرين”.

في اليونان
والآن، نجد أن اليسار في اليونان يناور انطلاقاً من الأمر نفسه، حيث إنه يريد تخفيف آثار التقشف على الشعب، من دون أن يتقدم أكثر من ذلك، فقد تسارع إفقار العمال والفلاحين والفئات الوسطى في اليونان في العقود السابقة. ولحل أزمات الدولة، أو هكذا ادعت الطبقة الرأسمالية التي حكمت، حلّت مشكلة “عجز الموازنة” عبر الاستدانة، الأمر الذي أوصل إلى أن يصبح هدف الاستدانة تسديد أقساط الديون، ما رفع نسبة الديون إلى الدخل القومي إلى مستوى عال. وأصبحت اليونان مهددة بالإفلاس، ما دفع الدول الدائنة (خصوصاً ألمانيا وفرنسا وصندوق النقد الدولي) إلى فرض سياسة تقشفية شديدة الوطأة، وهو ما حدث مع إسبانيا.
تصاعدت الصراعات الاجتماعية في اليونان منذ سنة 2010، لكن سياسة التقشف فرضت أن يتشكل يسار جديد، هو خليط من يسار شيوعي تمرّد على سياسات الحزب الشيوعي “الكلاسيكية”، و”الإصلاحية”، والمترددة. ويسار تروتسكي وماوي، ومتطرف، ونقابات، وحتى فوضويين. كان منطلقه مقاومة سياسة التقشف ورفضها. لهذا، نجح في الانتخابات، وأصبح هو الذي يحكم (بتحالف مع حزب يميني صغير). ودخل في مفاوضات لتخفيف سياسة التقشف، وليس لإلغائها، ويبدو أن المفاوضات متعثرة، الأمر الذي يطرح الحل البديل الذي يتمثل في رفض سداد الديون، والخروج من منطقة اليورو، وإعادة هيكلة الاقتصاد. ما تحقق إلى الآن هو رفض الشروط التي يطرحها الدائنون، واللجوء إلى الاستفتاء على الخروج من منطقة اليورو. وهذا جيد إذا تحقق. لكن، هل سيبقى اليسار موحداً؟ وقادراً على تقديم بديل حقيقي؟

“اليسار في اليونان يناور انطلاقاً من الأمر نفسه، حيث إنه يريد تخفيف آثار التقشف على الشعب، من دون أن يتقدم أكثر من ذلك”

هنا، نلمس أن اليسار ما زال يعتقد أن الحل في الوضع العالمي القائم، حيث تسيطر الرأسمالية بقوة (أضع بقوة بين مزدوجين نتيجة أزمة الرأسمالية التي بدأت تفضي إلى هذه التحولات التي توصل اليسار إلى الحكم) لا يسمح بالخروج عن الرأسمالية، حتى في حال الخروج من منطقة اليورو. وستعاني إسبانيا من الوضع نفسه، بعد انتصار اليسار الجديد. وكذلك كل البلدان التي يمكن أن تدخل في هذا المسار، وهي كثيرة وممتدة من إيطاليا والبرتغال وقبرص إلى شرق أوروبا.

أزمة بلا حل مجتمعي
تتمثل الأزمة هنا في أن اليسار يتشكل رد فعل على أزمة، هو يطرح حلاً لها، لكنه لا يطرح حلاً مجتمعياً. وبالتالي، كما في أميركا اللاتينية، يرى أن أي حل لا يمكن أن يخرج عن الرأسمالية. حيث هذه ما زالت قوية ومسيطرة، و”تسحق” كل محاولة للخروج عليها. هذه هي “العنّة” التي باتت تسكن كل تفكير يساري، وهي حكمت يسار أميركا اللاتينية، ويبدو أنها تحكم اليسار الجديد الذي يتشكل في بلدان جنوب أوروبا، وربما يمتدّ إلى شرقها. ربما نقول هذه هي ردة الفعل الأولى ليسار يتشكل في عالم جديد، وربما هي تجربة أولى لقوى شبابية، انغمست في الصراع. وربما هذه القوى الشبابية هي التي ستفتح على بديل حقيقي. لكن، يجب أن نلمس أن هذا الشكل “اليساري” هو التعبير عن منظور بورجوازي صغير يتملك قطاعات يسارية، تحاول أن تجد الحلول في إطار الرأسمالية، ولذلك تحتاج إلى شعارات يسارية، وحتى اشتراكية. لكن ذلك يتحقق حين نصل إلى استنتاج أنه يمكن تجاوز الرأسمالية، بل ويجب تجاوزها، لكي تتحقق مطالب العمال والفلاحين الفقراء وكل المفقرين، وأنه لا خيار غير ذلك. بالتالي، يقوم البديل على تجاوز الرأسمالية بالضرورة.
ما زال اليسار القديم والمستجد يرى جبروت الرأسمالية السابق، ولم يرَ بعد ضعفها وأزماتها، وربما تفككها. ولم يلمس أن هذه الأزمات المجتمعية التي فجّرت الثورات في البلدان العربية، ودفعت دول جنوب أوروبا، إلى أزمة طاحنة، ووضع شرق أوروبا المزري، وثورة أوكرانيا، كلها جاءت نتاج الأزمة التي طحنت الرأسمالية، وأساسها الأميركية سنة 2008، وهي الأزمة التي لم تلقَ حلاً إلى الآن، وباتت الرأسمالية نفسها تعتقد أن عليها “إدارة الأزمة”، ما دامت باتت عصية على الحل. وهي أزمة مختلفة تماماً عن كل الأزمات السابقة (أزمات فيض الإنتاج والتقاتل على الأسواق)، بالضبط لأنها أزمة “تعفّن” الرأسمالية، حيث سيطر المال على الرأسمال، المال المضارب على الرأسمال المنتج (النشط في الاقتصاد الحقيقي)، الأمر الذي سوف ينتج “الفقاعات” باستمرار، تلك الفقاعات التي يفضي انفجارها إلى انهيارات كبيرة تهزّ البنوك والمؤسسات المالية، وتضع كل الاقتصاد الرأسمالي على كف عفريت.
هذا الأمر هو الذي فرض التوظيف في المديونية منذ نهاية سبعينيات القرن الماضي، حيث تدرّ أرباحاً طائلة. وهو الذي فرض عولمة أسواق المال، وجعل البورصات في مركز الاقتصاد العالمي، كما فرض المضاربة على كل السلع وعلى العملة النقدية، وأسس لمخترعات جديدة، جرى تسميتها المشتقات المالية. حيث الأرباح هنا أضعاف أضعاف نسبتها في الاقتصاد الحقيقي (الإنتاج والتوزيع). لهذا، باتت الكتلة المالية هي الأضخم بنسب عالية (90%) في مجمل الاقتصاد العالمي. وباتت الطغم المالية المسيطرة في الدول الإمبريالية.

“كل يسار ما زال ينطلق من “حتمية استمرار الرأسمالية” لن يكون قادراً على الاستمرار في المرحلة المقبلة”

لكن، باتت الدول التي تحمي الرأسمال، وتفرض سطوته عالمياً مهددة بالضعف نتيجة الأزمة. وأصبحت “أحادية القطب” من الماضي في عالم فوضوي بلا أقطاب، على الرغم من التصارع الذي يجري تعزيز مواقع دول على حساب أخرى. وباتت الأزمات تهدد بانفجارات شعبية، ليس في الأطراف فقط، وهذا مؤكد، وظهر في الثورات العربية، بل في “أطراف المراكز”، أي في البلدان المعتبرة ضمن البلدان الرأسمالية، لكنها في محيطها. مثل جنوب أوروبا وشرقها بالنسبة لكل من ألمانيا وفرنسا خصوصاً، وأميركا اللاتينية بالنسبة لأميركا، وجنوب شرق آسيا بالنسبة لليابان. على الرغم من أن بلداً، مثل روسيا، مهدد بثورة كذلك، فما زال يعتبر من “أطراف المراكز”، على الرغم من أنه يعتقد بأنه إمبريالية يجب أن تحظى بالأسواق والسيطرة والدور العالمي المميز. هو إمبريالية لم تستطع أن تحل مشكلات التوتر الاجتماعي الداخلي، نتيجة عجزها إلى الآن عن السيطرة على الأسواق، ونتيجة انخراطها في النظام المالي الدولي، وبالتالي، خضوعها لأزماته.
تفرض هذه الوضعية أن ينطلق كل منظور يسار ثوري من أنه بات علينا أن نتقدم لتجاوز الرأسمالية بالضرورة. بالتالي، يجب نقد رهاب الخروج منها، وتعزيز المنظور الذي يعتقد أن الأوان قد حان لتجاوز الرأسمالية. ومهمة اليسار الثوري تجاوز الرأسمالية في مسار يفضي إلى الاشتراكية.
ما هو البديل؟ هل هي الاشتراكية؟
ربما في البلدان الأكثر تقدما يمكن أن نتحدث عن الانتقال إلى الاشتراكية. لكن، في الأطراف سينحكم الوضع بالضرورة لتجاوز الرأسمالية، أما ما هو البديل؟ فهذا يفرض رؤية مسألتين، الأولى تخلف البنى، وغياب قوى الإنتاج، وبالتالي، تشكّل طبقات متعددة مشاركة في التغيير (كتلة تاريخية). والثانية أن تجاوز الرأسمالية ليس ممكناً إلا بدور قيادي للعمال والفلاحين الفقراء، أي ليس تلك الفئات من البرجوازية الصغيرة، أو الوسطى، التي سرعان ما تتراجع أو تساوم، وأصلاً لا تحمل مشروعاً تغييرياً حقيقياً.
هذا أمر يحتاج إلى بحث آخر. لكن، ما يهم هنا هو التأكيد على أن كل يسار ما زال ينطلق من “حتمية استمرار الرأسمالية” لن يكون قادراً على الاستمرار في المرحلة المقبلة، حيث إن منطقه الإصلاحي سوف يسقط أمام عمق الأزمات المجتمعية، وإزاء توسيع حالة الإفقار التي سوف تستمر بها الرأسمالية بأشكال أكثر فظاعة ووحشية، وهي تعاني من أزمتها المميتة.

المصدر: العربي الجديد

“المظلومية السنية” في سورية

سلامة كيلة: العربي الجديد

بعد أربع سنوات من الثورة في سورية، أصبح الأمر يتعلق بـ “مظلومية سنية”، وليس بثورة ضد نظام استبدادي مافيوي، حيث بات الأمر يتعلق بـ “حق طبيعي” لـ “الأكثرية السنية” أن تكون الحاكمة، لكن “الأقلية العلوية” استأثرت بالسلطة. هذا منظور أستاذ كبير، هو صادق جلال العظم، لكنه بات يتكرر من “نخب” وأناس ركبوا الثورة، ويراد لنا أن نقرّ بأنه حقيقة باتّة، لا نقاش فيها.

إذن، لسنا إزاء ثورة شعبية من أجل “الحرية والكرامة”، كما يتكرر، بل نحن إزاء حراك “السنة” من أجل استعادة “موقعهم الطبيعي كأكثرية” في السيطرة على السلطة. بالتالي، عدنا إلى فكرة أن “الثورة سنية ضد نظام علوي”، الفكرة التي حكمت قطاعاً من المعارضة، وأرادت للثورة أن تكون كذلك، وبالتالي، أسهمت في إيصالنا إلى تمدد داعش وجبهة النصرة وجيش الإسلام وكل الأصوليات المدمرة.
إذا انطلقنا من هذا المنظور، يمكن، أولاً، أن نبرر ما جرى في العراق، حيث انطلق قطاع طائفي من الشيعة من فكرة “المظلومية الشيعية” التي حكمتها “أقلية سنية”. وبالتالي، أن نقبل ما جرى هناك. وهذا مناقض للواقع، و”رجعي” بكل معنى الكلمة، حيث أعاد العراق قروناً إلى الوراء.
وثانياً، كيف نبرر التصاق تجار دمشق وحلب “السنة” بالنظام إلى الآن، ولهم نصيب في السلطة، بغض النظر عن النسب الحاكمة بينهم وبين المافيا التي تشكلت من قلب السلطة، وتحكم الثانية بالأولى. دافعوا عن السلطة وما زالوا، وفي ذلك يدافعون عن سلطتهم، وليس عن “نظام علوي”.
وثالثاً، مناطق الساحل السوري في ظل “النظام العلوي” من أفقر مناطق سورية، أي أنها لم تكن مستفيدة من السلطة، كما يستفيد تجار دمشق وحلب. وإذا كان سكانها وقفوا، كما يقال، مع السلطة فيجب أن نبحث عن السبب، لا أن نركن إلى تحليل طائفي مسبق، يقسم الشعب إلى طوائف. وكانت فكرة أن الثورة سنية ضد نظام علوي من المسائل التي أخافت هؤلاء (إضافة إلى نشاط إخواني وضخ إعلامي أصولي، يريد أسلمة الثورة، وتهافت نخب إزاء هذا الضخ الإعلامي). حيث بدل أن تُطرح المطالب الحقيقية، جرى العمل على طرح منظور يقوم على أساس طائفي.
هنا، أقول إن المظلومية، إذا اردنا استخدام هذا التعبير، هي مظلومية الفئات المفقرة التي نهبتها البرجوازية المسيطرة بشقيها، “السني والعلوي”، وليست مظلومية طائفة يعتقد بعضهم أن حقها الطبيعي أن تكون هي السلطة (أي أن يكونوا هم السلطة تحديداً).
وكان التنظير لمفهومي الأغلبية والأقلية، بالمعنى الديني الذي بدأ مع برهان غليون في كتابه “بيان من أجل الديمقراطية”، يقود إلى هذا التصور عن المظلومية، حيث ترسّخ، بناءً على ذلك، لدى قطاع من النخب، فهم يقوم على قسم الصراع إلى أغلبية سنية ضد نظام علوي، وهو تصوّر يظهر الآن بشكل فاقع، مستغلاً أن بيئة الثورة كانت في “المناطق السنية”، من دون سؤال عن سبب الشغل العنيد من السلطة والإخوان المسلمين والدول الإقليمية على حشر الثورة هنا، والعمل على إعطائها هذا التوصيف.
بالعودة إلى “المظلومية السنية”، أقول إن داعش والنصرة وجيش الإسلام تحكم باسم السنة، وعمر البشير في السودان يحكم باسم السنة، وهي كلها ضد شعوبها، تنهبها وتستبد بها. بمعنى أن المظلومية هي الغطاء لنظم مستبدة ناهبة أصولية (كما في إيران والعراق). ولا يتعلق الأمر بمظلومية طائفة، بل بظلم شعب من خلال نهبه وقمعه، وما يتكرر في سورية يهدف إلى ذلك، حيث تسعى فئات، باسم المظلومية، إلى السيطرة على السلطة، وممارسة ممارساتها.
لنعد، إذن، إلى الشعار الذي رفعه الشباب: “لا سلفية ولا إخوان، الثورة ثورة شبّان”. شبان معطلون، مفقرون، مهمشون، ومقموعون. هؤلاء هم من صنع الثورة.

المصدر: العربي الجديد

عن عبد الناصر

في ذكرى ثورة 23 يوليو 1952، انتشرت التعليقات التقييمية حول ما جرى، وبدا أن هناك عدم معرفة بما حدث، خصوصاً لدى الشباب، وأن الموقف مما جرى مبني على حكم بعدي، صدر عن الموجة التي تمركزت حول الخطاب الديمقراطي. فأصبح الحكم سلبياً نتيجة دكتاتورية جمال عبد الناصر. وبعضهم مدَّ الأمر لكي يعتبر نظم أنور السادات وحسني مبارك إلى الآن استمراراً لنظام عبد الناصر.
كان النظام السياسي الذي نشأ بعد انقلاب الضباط على النظام الملكي دكتاتورياً، حيث انحكم لقرار فرد، ولتحكم أجهزة أمنية وبيروقراطية دولتية، لكن هذا جزء من الحقيقة، إلا إذا انطلقنا فقط من منظور ليبرالي ديمقراطي، لا يلمس سوى البنية السياسية للدول، متجاوزاً وضع الشعب، ومبتعداً عن لمس طبيعة الاقتصاد والطبقات. بالتالي، سيكون النظام دكتاتورياً و”كل دكتاتورية في النار”.
لا يفسر هذا الحكم لماذا كان النظام دكتاتورياً؟ وهل كان هناك بديل ديمقراطي حينها؟ وكل إشارة إلى الحكم الملكي و”الديمقراطية” التي كانت قائمة تتجاهل أن القرار في هذا النظام “الديمقراطي” كان للاحتلال الإنجليزي ثم للملك، ولأن الديمقراطية شملت فئة قليلة من الشعب، بينما كان 90% منه مغيباً عن كل سياسة، ويعاني من التخلف والجهل والأمية. ومن ثم، فإن أول خطوة ديمقراطية لا بد أن تتمثل في تعميم التعليم وإنهاء التخلف والفقر والجهل، فالديمقراطية تحتاج إلى شعب مسيَّس، وليس إلى شعب يعاني الجهل والتهميش.
المشكلة العميقة التي كانت تحكم المجتمع تمثلت في البطالة والفقر والتهميش في ظل نظام شبه إقطاعي، وفي احتجاز التطور الصناعي والتطور بشكل عام. حيث كان يجب إزالة الإقطاع والرأسمالية التابعة وإنهاء الاستعمار، ومحاولة التقدم من أجل تعميم العلم والثقافة وبناء الصناعة وتحقيق مستوى معيشي “لائق”. هذا ما تحقق في ظل “الدكتاتورية”. على الرغم من أن طبيعة الفئات التي حكمت كونها، في الغالب، ذات طابع ريفي، عمل بعضها على نهب الرأسمال المتمركز بيد الدولة (القطاع العام)، وكانت بساطة الوعي لديها وقرب ارتباطها بالريف يجعل ثقتها توضع بمن “يمجدها”، ويتبعها بغض النظر عن مؤهلاته.
إذن، حققت التجربة نقلة، وتوقفت ثم انهارت. انهار الإقطاع وتفككت بنى تقليدية ووعي تقليدي. لكن، لم يتشكّل بديل يحلّ محلها. وربما ساعدت شمولية السلطة على أن يتغطى نهب فئات في السلطة، هذه التي شكلت “رجال الأعمال الجدد” (أو كما سمته مجلة الطليعة سنة 1968، البروز الرأسمالي الكبير). وقادت مسار التحوّل المعاكس، حيث قامت بتصفية التجربة ونهب القطاع العام، وتدمير التعليم.
تمثلت المشكلة، هنا، في أن فئات ريفية قامت بالتجربة، في الغالب عبر الجيش (لا يستطيع الفلاحون تشكيل حزب خاص بهم)، ومن ثم عبّر عن طموح الريف في الانتقال الطبقي، وهذا ما تحقق عبر السباق الذي جرى عبر الدولة، فالريف كان يريد التخلص من الإقطاع، لكنه كان يريد الترسمل، بالتالي، كانت الدولة المعبر لذلك. لهذا، حققت التجربة تقدماً وتحولات، ثم انهارت، والمجتمع في وضع مختلف عما كان قبل الثورة.
لماذا قامت فئات ريفية بذلك عبر الجيش؟ هذه حالة “خاصة”، لأن الريف لا يستطيع التغيير من دون قيادة المدينة، منذ انتصار البرجوازية إلى ثورة أكتوبر. استطاعت ذلك لأن الأحزاب التي كان عليها أن تغيّر، من الليبراليين والشيوعيين، لم تطمح إلى التغيير، في وضع مجتمعي كان يعجّ بالصراع الطبقي، وينزع نحو التغيير. المشكلة هنا تُحمَّل للشيوعيين الذين كانوا يأنفون الوصول إلى السلطة، ويريدون تطوراً ديمقراطياً بورجوازياً، في وضع عالمي لا يسمح بذلك. هذه أخطاء حركة حدتو حينها، التي كان لها ثقل في مجلس قيادة الثورة، لكنها أرادت النظام البرلماني، في وضع مجتمعي مخلَّف، لا يعطي أكثر مما أعطى في ظل النظام الملكي.

المصدر: العربي الجديد

عن اليونان وإسبانيا واليسار

أحدثت انتكاسة اليونان هزّة لدى الشعب اليوناني. لكن، أيضاً لدى كل الذين عقدوا أحلاماً على يسار جديد يمثله حزب سيريزا. وربما تفضي إلى قطع الطريق على حركة بديموس في إسبانيا، حيث ربما تفقد كثيرين ممن أرادوا التصويت ليسار جديد، نتيجة الشك في يسارية الحركة، خصوصاً أنها، أيضاً، لا تحمل برنامجاً واضحاً، فيما عدا رفض التقشف.
مسارعة رئيس الوزراء سيبراس، إلى توقيع الاتفاق مع الدائنين والاتحاد الأوروبي، أحدثت شرخاً في الحزب نفسه، الذي يتشكّل من كتلة صغيرة في اليمين، لكنها مهيمنة، وكتلة كبيرة في الوسط، وثالثة وازنة في اليسار الجذري. لهذا، ربما يتصاعد الصراع نحو الانقسام السريع، وأيضاً نحو فرط الحكومة والسير نحو انتخابات جديدة، أو تحالف جديد، لا يكون حزب سيريزا المسيطر فيه. لكن، الأهم هنا هو كيف يمكن أن يتجذر الحزب أو يتفكك؟ كتلة الوسط هي التي سوف تحسم الأمر. لكن، من الواضح أن وضع الحكومة سوف يكون صعباً، نتيجة رفض قسم من أعضاء حزب سيريزا التصويت لمصلحة الاتفاق.
لا شك أن الحراك الشعبي سوف يؤثر كثيراً في الصراع داخل الحزب، حيث يمكن أن يشدّ من أزر الوسط، فيميل أكثر نحو اليسار. وهنا، إذا سقطت الحكومة، وجرت انتخابات جديدة، يكون الحزب مؤهلاً لأن ينتصر من جديد. لكن، على ضوء برنامج حاسم في القطع مع الدائنين، ومع الاتحاد الأوروبي، ومع البنوك المحلية والبورجوازية عموماً، أو يصبح قادراً على شلّ أية حكومة، يمكن أن تتشكل من تحالف أحزاب اليمين ويمين حزب سيريزا، في حال نجح هؤلاء في تشكيل حكومة.
هل تسمح التجربة بتحقيق هذا التطور في اليسار، بحيث يصبح حاملاً برنامج تغيير حقيقي، وليس برنامج رفض؟ ربما يعتمد ذلك، بالتحديد على مدى توسّع الحراك الشعبي، وربما، أيضاً، على تفاعل الحزب الشيوعي (حصد 6% من الأصوات) مع الحدث، وميله إلى التفاهم مع التحوّل الجديد الممكن، وأساساً امتلاكه برنامجاً جذرياً.
في إسبانيا، سوف يرى الشعب هنا، وإسبانيا تتحضّر للانتخابات في نوفمبر/تشرين أول المقبل، أن بديموس نسخة عن سيريزا، وبالتالي، ربما يميل إلى الاستنكاف عن التصويت، الأمر الذي سيضعف حركة بديموس بالتأكيد، ويجعلها تفشل في الوصول إلى السلطة. الحدث اليوناني مؤثر هنا، كما كان من قبل. لكن، هذه المرة بشكل معكوس. وبالتالي، انتكاسة اليونان ربما تضرّ بإسبانيا. وهي بالضرورة ستضرّ فيما إذا ظلت حركة بديموس بما هي عليه، كحركة ترفض، من دون بديل حقيقي، يقطع مع الاتحاد الأوروبي والدائنين والبورجوازية الإسبانية، حيث ستبدو للشعب الإسباني يساراً شكلياً، متهافتاً، وانتهازياً، يريد الوصول إلى السلطة فقط.
هل ستتجذر بديموس قبيل الانتخابات؟ هذا ما يجعلها قادرة على النجاح، وإلا فإن السقوط يمكن أن يكون مصيرها. حيث لم تعد الشعوب قادرة على قبول الحلول الإصلاحية، بعد أن بات الرأسمال يعمل على نهبها، ودفعها نحو الفقر. وآليات ذلك باتت مرتبطة، في جزء منها، بالانخراط في الاتحاد الأوروبي الذي يفرض عليها شروطاً تهيء الأرضية لنهب الرأسمال، بعد أن جرى توريط دول عديدة في المديونية التي هي استثمار رأسمالي، وليست مساعدة أو “تسهيلات بنكية”، لكي تتجاوز الدول أزمتها المالية، التي نتجت، أصلاً، عن نهب الرأسمالين، المحلي والدولي، الأمر الذي يضع الشعوب أمام مسار يفرض القطع مع الرأسمال، من أجل وقف النهب، وإعادة بناء الاقتصاد بشكل مستقل، يخدم الشعب وليس الرأسمال.
بالتالي، تجذر الشعوب مواقفها، وهذا ما يفرض بناء يسار جذري. بعد أن ظهر أن اليسار العالمي بات إصلاحياً وانتهازياً، وفي غير وارد التغيير، وظهر أن المحاولات الأولى لتبلور يسار جديد ما زالت تحمل من إرث اليسار السابق الكبير من العيوب والسوء.
أزمة اليسار البديل هي أزمة العالم اليوم.

المصدر: العربي الجديد

ما بعد الاتفاق النووي مع إيران

أخيرا جرى التوقيع على الاتفاق النووي بين الغرب وإيران بعد مفاوضات طويلة، حيث كان واضحا منذ أشهر أن الاتفاق منجز، وأن ما يجري يتعلق بـ”تهيئة الأجواء” في كل من أميركا وإيران لقبوله.

ورغم التركيز على تعقيدات تتعلق بمسائل حساسة، فإن كلا الطرفين كان يعتقد بأن الأمور تسير نحو الاتفاق.

ولا شك أن الأمر كان يتعلق بكل من أميركا وإيران بالأساس، وكان كل طرف يعرف “نقاط ضعف” الطرف الآخر، حيث استخدمت أميركا العقوبات الاقتصادية إلى المدى الأقصى، وفرضت حصارا على البنك المركزي الإيراني، وهو ما أفقد إيران القدرة على الاستفادة من المداخيل النفطية نتيجة أن النفط يباع بالدولار حصرا، الأمر الذي جعل حصول إيران على مداخيلها النفطية مستحيلا، حيث يجب أن يمر الدولار عبر البنك المركزي الأميركي الذي يقوم بمصادرتها في الحال بدل تحويلها إلى البنك المركزي الإيراني.

“انهيار الاقتصاد الإيراني فرض على إيران أن تناور، لكن أن تقبل في الأخير ما هو ممكن من أجل الوصول إلى رفع العقوبات قبل انهيار الدولة، لهذا كانت تشدد على أن تُرفع العقوبات من لحظة توقيع الاتفاق، وهو ما حصلت عليه بعد مناورات متعددة”

هذا الأمر جعل الاقتصاد الإيراني في وضع صعب، وأشرف على الانهيار، وبالتالي كان على النظام الإيراني أن يناور، لكن أن يقبل في الأخير ما هو ممكن من أجل الوصول إلى رفع العقوبات قبل انهيار الدولة. لهذا كان يشدد على أن تُرفع العقوبات من لحظة توقيع الاتفاق، وهذا ما حصل عليه بعد مناورات متعددة.

في المقابل، باتت أميركا معنية بـ”التحالف” مع إيران، لأنها تعتبر أن الخطر الأكبر هو ذاك القادم من الصين، ولهذا اعتبرت أن أولويتها هي منطقة الباسيفيك (آسيا والمحيط الهادي)، وانطلقت من ضرورة كسب الدول المحيطة بالصين في سياق ضمان حصارها في حال أرادت تطوير الصراع.
ولأن أميركا ما زالت تعتبر أن الخليج العربي هو “جزء من الأمن القومي الأميركي”، كما قرر مبدأ كارتر (سنة 1980)، فقد باتت معنية بوجود “حائط صد” أمام الصين لكي لا تتمدد نحوه، رغم وجود القواعد العسكرية الأميركية هناك.

كما أنها وهي تتراجع عالميا تريد ضمان استقرار الخليج، وكسب إيران يساعد على ذلك، لهذا كانت العقوبات التي فرضتها على إيران من أجل الوصول إلى توافق وليس من أجل “هزيمتها”، والنظام الإيراني يعرف هذه الحاجة الأميركية، لهذا ظل يناور إلى آخر رمق، فحصل على ربط رفع العقوبات بالتوقيع على الاتفاق النووي.

أما غير ذلك فإن الاتفاق يشل مقدرة إيران لسنوات طويلة عن تطوير قدرتها النووية، وهنا يظهر نجاح السياسة الأميركية، لكن يجب ملاحظة أن كل طرف بات يستطيع القول إنه نجح في “فرض شروطه”، والأمر هنا يتعلق بمسائل شكلية وليس بجوهر البرنامج النووي.

ربما كان قبول أميركا والدول الأخرى ربط رفع العقوبات بالتوقيع هو ما أثار الخوف لدى قطاع كبير من المتابعين، لأنه يعني أن إيران باتت قادرة على دعم وجودها في كل من سوريا ولبنان والعراق واليمن بعد أن ظهر في الفترة الأخيرة أنها باتت عاجزة عن تمويل الحروب في هذه البلدان. هذا الأمر ربما هو ما أثار أكثر التخوفات، وأطلق التكهنات بشأن أن أميركا قد أطلقت يد إيران في المنطقة، وفرض انتشار جو من السلبية والتشاؤم.

أظن أن في ذلك تسرع، وأيضا سوء فهم كبير، فربما لم ينتبه البعض إلى أن الحل الذي جرى التوصل إليه في ما يتعلق بربط رفع العقوبات بتوقيع الاتفاق تمثل في إعطاء مدة تسعين يوما بين توقيع الاتفاق رسميا، بما في ذلك إقراره في مجلس الأمن، وتطبيقه، لهذا لا بد من محاولة فهم ما يمكن أن يجري خلال هذه المدة.

“لم ينتبه البعض إلى أن الحل الذي جرى التوصل إليه في ما يتعلق بربط رفع العقوبات بتوقيع الاتفاق تمثل في إعطاء مدة تسعين يوما بين توقيع الاتفاق رسميا -بما في ذلك إقراره في مجلس الأمن-، وتطبيقه. لهذا لا بد من محاولة فهم ما يمكن أن يجري خلال هذه المدة”

لا شك أن أميركا ضمنت توقيع الاتفاق، ولهذا سوف تنتقل إلى البحث في الوضع الإقليمي. وقد أشار باراك أوباما منذ أيام إلى أن إدارته عاكفة على صياغة رؤية للسياسة الأميركية في كل من سوريا والعراق واليمن، بالتالي لا بد من رصد ما يمكن أن يجري على ضوء ذلك. ولا شك في أن أميركا تريد التحالف مع إيران، لكن ذلك لا يعني التسليم لها بما تريد، خصوصا أن لأميركا مصالح أخرى لا تتوقف عند إيران.

فالعراق بالنسبة لها جزء من الخليج العربي، وحين احتلته كانت معنية بأن تهيمن عليه، حتى وهي تعطي إيران حصة فيه عبر فرض سيطرة “قوى شيعية” كلها تابعة لإيران. وقد اختل الأمر بعد انسحابها الذي فرضته الأزمة المالية التي انفجرت في سبتمبر/أيلول سنة 2008، والتحول الذي حصل في إستراتيجيتها بالتوجه وإعطاء الأولوية لمنطقة الباسيفيك.

لكن خطأ نوري المالكي باستغلال داعش (تنظيم الدولة) لكي يعود إلى السلطة جعل أميركا تعود عبر “الحرب ضد داعش” (أو الحرب بداعش) لكي تعيد بناء السلطة في العراق بما يجعلها هي المهيمنة، وتضخيم داعش واللعب بها يهدف إلى ذلك، فالعراق بلد نفطي يجب السيطرة عليه، ولقد شُمل بمبدأ كارتر.

لهذا لن تتخلى عنه لإيران، على العكس سوف يتصاعد الصراع في الفترة القادمة من أجل إضعاف سيطرة إيران على السلطة، وتهميش قواها، وبناء سلطة جديدة تخضع للسيطرة الأميركية. هذا ما بدأته منذ صيف سنة 2014، وهي مستمرة به، ولن يكون ممكنا تراجعها عنه.

ولكن هل البديل هو سوريا؟ لا أظن، فأميركا منذ بداية سنة 2012 “تبرعت” بسوريا لروسيا، رغم أن نفوذها هناك لم يكن قائما، وهذا “التبرع” هو جزء من المفاوضات الأميركية الروسية لـ”تقاسم العالم”، حيث إن حاجة أميركا لحصار الصين تفرض عليها التحالف مع روسيا، وبالتالي تقاسم الحصص معها، ولأن روسيا منشدة للتواجد في سوريا، وقد حصلت على مصالح كبيرة بعد الثورة نتيجة دفاعها “المستميت” عن النظام في المحافل الدولية، ولأن أولوية أميركا الجديدة (منطقة الباسيفيك) تعني التخلي عن “الشرق الأوسط”، فقد قبلت أن تكون سوريا من حصة روسيا. ورغم الخلاف الكبير الذي نشب بعد الأزمة الأوكرانية، فقد ظل المنظور الأميركي يقوم على دعم وجود روسيا في سوريا.

ربما الآن بات الأمر أكثر أهمية بالنسبة لأميركا في ما يتعلق بإبعاد إيران عن سوريا، فقد وقعت الاتفاق النووي معها رغم المعارضة الشديدة من قبل الدولة الصهيونية، ورغم الخوف الكبير لديها، وهو ما أثار الحساسية في العلاقات بين الطرفين، وربما يهيئ لمشكلات كبيرة.

لهذا سينطلق المنظور الأميركي تجاه سوريا، ليس من التقاسم مع روسيا فقط، بل كذلك من ضرورة إبعاد إيران عن سوريا إرضاء للدولة الصهيونية، وتحقيق ذلك يعني ترتيب وضع نظام في سوريا ليس معاديا للدولة الصهيونية، خصوصا أن روسيا “صديقة حميمة” للدولة الصهيونية، لكنه يعني أيضا خنق حزب الله الذي سيفقد الطريق إلى طهران، وسيكون محاصرا بأطراف لا تريده، وهذا ما يمكن أن يشل حركة الحزب، وقد يفتح على تجريده من السلاح، وربما استثارة قاعدته الاجتماعية بعد كل الخسائر التي نتجت عن حربه ضد الشعب السوري.

إذن، سيكون الشغل الأميركي على ترتيب سلطة في سوريا غير تابعة لإيران، بل مهيمن عليها من قبل روسيا (أو ربما تبدو كذلك فقط نتيجة التداخل الممكن مع أطراف أخرى). وهذا يعني العودة إلى مبادئ جنيف1، والانطلاق إلى جنيف3 تحت الرعاية الأميركية الروسية.

“الاتفاق النووي سيفتح على ترتيب وضع المنطقة، لكن ليس بهيمنة إيران بل بتقليص دورها، وعبر إعطائها امتيازات في العراق واليمن، هي أقل مما يريد الإيرانيون، لكنهم لا يستطيعون الحصول على أكثر مما هو ممكن”

ولا شك أن اتصال بوتين بأوباما للحديث عن سوريا له معنى بعد أن ظل الروس يتجاهلون ذلك، و”يتدللون” على أميركا، فقد شعر الروس بأن إيران هي التي تهيمن الآن على السلطة في سوريا، وأن مقدرتهم وحدهم على ترتيب السلطة بما يحقق المصالح الروسية لم تعد كبيرة، لهذا لجأ بوتين إلى أميركا التي تمتلك أوراق ضغط كبيرة، معتمدا عليها في ترتيب وضع سلطة خاضعة له وليس لإيران.

في اليمن، من الواضح أن أميركا لا تريد إنهاء الحوثيين، وهذا ما يظهر من خلال موقف الأمم المتحدة، وخصوصا من خلال مبعوثها إلى هناك. لكن هذا لا يعني أنها تريد تسليم اليمن للحوثيين، بل تريد أن يكون الحوثيون جزءا مؤثرا في الدولة المقسمة بين السعودية وإيران، حيث يعود حزب الإصلاح وتعود القبائل التي هي عصب السلطة، وهذا يرضي السعودية، مع إشراك الحوثيين عبر “موقع مميز” في السلطة، وهذا يرضي إيران.

لهذا فإن التوصل إلى اتفاق حول البرنامج النووي الإيراني سيفتح على ترتيب وضع المنطقة، لكن ليس بهيمنة إيران بل بتقليص دورها، وعبر إعطائها امتيازات في العراق واليمن، هي أقل مما يريد الإيرانيون، لكنهم لا يستطيعون الحصول على أكثر مما هو ممكن.

ربما كانت مدة التسعين يوما هي الفترة التي ستعمل الإدارة الأميركية فيها على هذا الترتيب قبل أن تتدفق الأموال على إيران، هذه الأموال التي سوف يجري العمل على نهبها عبر المشاريع التي ستطرح لتطوير حقول النفط، وتحديث أسطول الطيران والبنية التحتية. وهي المسائل التي سوف تثير التنافس بين حلفاء الأمس، من ألمانيا وفرنسا إلى أميركا، ومن روسيا إلى تركيا.

المصدر : الجزيرة

“اليسار اليوناني” يخفق

نجح حزب سيريزا اليساري في اليونان، بالضبط لأنه رفض سياسة التقشف، والشروط المجحفة التي وضعها الدائنون (صندوق النقد الدولي والبنوك الأوروبية)، وعمل على إعادة البحث في تلك الشروط، وعلى أساس وقف سياسة التقشف. وحين أصرّ الاتحاد الأوروبي والدائنون على شروطهم، قرّر الحزب إجراء استفتاء عليها، ولقد رفض الشعب اليوناني تلك الشروط، بنسبة قاربت 65%. وظهر أن اليونان تسير نحو الخروج من الاتحاد الأوروبي، وسوف توقف سداد فؤائد ديونها، وطالب بعضهم في الحزب بإلغاء الديون ومصادرة أموال الرأسمالية اليونانية التي تسببت في مراكمة تلك الديون، وهي من استفاد منها. لكن الحزب لم يأخذ في الاعتبار رفض الشعب، حيث قدّم “خطة جديدة” وافقت دول الاتحاد الأوروبي عليها. تنص على زيادة عائدات الضرائب وترشيد رواتب التقاعد وتحرير سوق العمل. وما اعتبر رئيس الوزراء، سيبراس، أنه انجاز هو تجنيب نقل الأصول اليونانية إلى الخارج، وانهيار النظام البنكي فقط. وما “تحقق” هو إعادة جدولة الديون من دون تخفيضها، بمعنى أن ما تحقق في الاتفاق الجديد هو “تحسين جزئي” في الشروط من دون المسّ بها.
وبالتالي، نفهم هنا لماذا استقال وزير المالية، المشاغب الأكبر، ضد الدائنين والاتحاد الأوروبي، عقب التصويت بلا على الشروط الأوروبية، حيث فهم أن الـ لا هذه تنفيس لرفض الشعب من أجل الوصول إلى اتفاق، وليس من أجل رفض الشروط والتصميم على رفض سياسة التقشف، وكل شرود الدائنين، حتى وإنْ قاد ذلك إلى الخروج من الاتحاد الأوروبي، والعودة إلى العملة اليونانية، الدراخما. ولا شك في أن ما جرى يعني أن الحزب الذي ظهر تجديداً لليسار، وبديلاً عن الأحزاب اليسارية، سوف يعاني من موته الآن، بسرعة لا مثيل لها. ولسوف يفقد شعبيته كذلك بسرعة لا مثيل لها. ومن ثم يتحوّل إلى أداة جديدة بيد الرأسماليتين، اليونانية والأوروبية.
طبعاً، كان واضحاً أن الحزب الذي تشكّل “على عجل”، وانطلاقاً من سياسة “رفضية” (رفض سياسة التقشف وشروط الدائنين)، يضم تيارات متعددة، بعضها جذري، وبعضها نقابي مطلبي، لكن بعضها إصلاحي بكل معنى الكلمة. وكان يشار إلى سيبراس الذي أتى من صفوف الحزب الشيوعي ممثلاً لهذا التيار الإصلاحي الذي من السهل عليه التحوّل إلى الليبرالية، كما أوضحت تجارب “التجديد” التي يطرحها شيوعيون سابقون. حيث تشرّب هؤلاء فكرة أن زمن تجاوز الرأسمالية لم يحن بعد، وأن بلداً وحيداً لا يستطيع الانتقال إلى الاشتراكية. وبالتالي، ليس من الممكن سوى تحسين في بنية الرأسمالية باتجاه “عدالة ما تشمل الفئات الأفقر، و”تشذيب” في التكوين الاقتصادي، يراعي عدم رمي الشعب في الفقر بسرعة. فالنمط الرأسمالي ما زال قائماً، لن يكون ممكناً تجاوزه الآن، بالتالي، الهدف هو “تحسين” الأوضاع بشكل ما.
لهذا أظهر سيبراس “منجزاته” بأن أشار إلى تجاوز بيع أصول يونانية (بعض الجزر) للدائنين، وأنه منع انهيار النظام البنكي، بالعودة إلى المديونية، لكي تنهب البنوك وتستقر. على الرغم من أن الحل يفرض انهيار النظام البنكي، مع إعادة تأسيسه على أسس جديدة، بعيدة عن سيطرة الطغم المالية الأوروبية (الفرنسية الألمانية)، من خلال الخروج من الاتحاد الأوروبي ومن منطقة اليورو.
سوف تدفع هذه الخطوة إلى تفكك حزب اليسار. لكن، أيضاً إلى تصاعد الحراك الشعبي، بالضبط لأن الشعب لم ينتخب سيريزا من أجل ذلك، بل من أجل إنهاء سياسة التقشف. بالتالي، نحن في بداية طريق من الصراع الذي يفرض تأسيس يسار آخر، جذري، ومعني بتجاوز الرأسمالية، هذه المسألة التي ما زالت تخيف “اليسار القديم”، وأطرافاً في اليسار الذي يتشكّل “على عجل”. والشباب اليساري الذي كان في صلب تجربة حزب سيريزا يمكن أن يكونوا هم أساس ذلك.

المصدر: العربي الجديد

المديونية كتوظيف مالي

ينظر إلى عملية الاقتراض، سواء من صندوق النقد الدولي أو من البنوك الدولية، على أنها حل لمشكلات داخلية تتعلق بعجز الموازنة، حيث تكون مصروفات الدولة أكبر من وارداتها لأسباب مختلفة، منها ما يعاد إلى “فشل القطاع العام”، والضمان الاجتماعي ومجانية التعليم، وتحمُّل الدولة فروقات الأسعار في سلع أساسية بين سعرها العالمي وما يناسب الأجر المحلي. كل ذلك حسب ما تكرر في خطاب صندوق النقد الدولي الذي يضغط من أجل فرض الخصخصة.

ولهذا يظهر الأمر وكأن عبئاً ملقى على الدولة فرض ذلك، لهذا يجب أن يُزالَ العبء عبر الخصخصة وتخلي الدولة عن التزاماتها تجاه الطبقات الشعبية. ولحين تحقيق ذلك تأتي “اليد الحنون” لكي تساعد الدولة على إعادة الهيكلة عبر تقديم قروض مالية “سخية”.

هكذا يظهر الأمر في البروباغاندا، وهكذا يروج مفكرو الليبرالية الجديدة. لكن سيبدو الأمر غير ذلك تماماً فيما إذا درسنا عوائد القروض، وكيف أن القرض يتراكم ويكبر رغم دفع المستحقات السنوية (فوائد الديون). وإذا جرى جمع الفوائد التي دُفعت وحدها سنجد أنها أكبر من الدين ذاته. هنا نلمس عملية مزدوجة في تحقيق الربح، حيث تكون الفوائد شكلاً له، ويكون تراكم الدين شكله الآخر. هذا الشكل الأخير يتحقق عبر الاستدانة من أجل تسديد فوائد الديون، وهكذا….

اقرأ أيضا: الديون في الدول العربية: اقتصادات برسم البيع

وبالتالي سنلمس هنا أن نسبة الربحية في توظيف الديون ستكون أعلى بما لا يقاس عن نسبة الربحية في الصناعة أو حتى التجارة والخدمات. لهذا فالديون توظيف جيد ومضمون، ويحقق عبر ذلك وضعاً اقتصادياً يسمح بنشاط استثماري مربح كذلك.

مثلاً، لنأخذ وضع مصر، حيث كانت القيمة الفعلية للقطاع العام في ثمانينيات القرن العشرين تبلغ 360 مليار دولار، وكان قد بدأ الشغل على “الانفتاح الاقتصادي” وبيع القطاع العام، كما بدأت عملية “التصحيح الهيكلي” (هذا هو الاسم “العلمي” لشروط صندوق النقد الدولي)، وأصبحت الدولة بحاجة إلى الديون لتجاوز عجز الميزانية، لتتراكم وتصبح (دون احتساب ما جرى التنازل عنه نتيجة حرب الخليج الأولى) ما يقارب الـ 50 مليار دولار مديونية تسدد أقساطها سنوياً. وكانت قيمة القطاع العام قد تبخرت، حيث كان يباع بحجة تسديد فوائد الديون. ومن ثم كانت تجري الاستدانة من جديد.

إلى أين ذهبت قيمة القطاع العام؟ إلى “رجال الأعمال الجدد” من طرف، والمقرضين والشركات التي وظفت “في السليم” من جهة أخرى. هذا يعني أن الخصخصة لم تكن حلاً لمشكلة بل فاتحة لنهب، حقق الدائنون أرباحاً طائلة منه. هذه هي عملية النهب التي ترافقت مع “الليبرالية المتوحشة”.

بالتالي يجب النظر إلى الديون على أنها توظيف رأسمالي وليست مساعدة، وأنها تحقق أرباحاً طائلة إضافة إلى أنها تفرض تغيير البنية الاقتصادية لمصلحة خصخصة شاملة، وتحكّم الطغم المالية بالاقتصاد المحلي، وبالتالي نهب هذه الطغم عبر التوظيف في مجالات أخرى بعد التسهيلات التي تُفرض على الدولة، والتي بدورها تحقق أرباحاً طائلة كذلك.

من هذا المنظور لا بد من التعامل مع الديون على أنها وسيلة نهب، وأنها حققت أرباحا أعلى من قيمتها، وبالتالي لا يتعلق الأمر بسداد الديون، بل بإلغائها بعدما فرضت فتح الاقتصاد للنهب. الأمر هنا يتعلق بحق طبيعي بإلغاء الديون، وحق المطالبة بالتعويض عن الخسائر التي حدثت من جرّاء نهب طويل تحقق عبرها.

اليونان تعاني اليوم من أزمة المديونية، وتسير نحو الإفلاس أو تخضع لشروط صندوق النقد الدولي والمصارف الأوروبية، وضغوط الاتحاد الأوروبي. ولقد فُرضت عليها سياسة تقشف قاسية رفضها الشعب، ولم يبقَ سوى إلغاء الديون، وإعادة بناء الاقتصاد بعيداً عن سيطرة الطغم الإمبريالية.

إسبانيا تعيش الأزمة ذاتها، وكذلك إيطاليا، وبلدان شرق أوروبا. كما تعيشها البلدان العربية، وكانت من أسباب امتصاص الفائض وتصديره إلى المراكز، وبالتالي إفقار الشعب.
ما يجب أن يتصدّر الصراع ضد الرأسمالية هو مسألة إلغاء الديون، واعتبار ذلك الحل الوحيد لهذا التوظيف المالي، الذي حقق أرباحاً هائلة للطغم المالية.

المصدر:  العربي الجديد

أزمة اليونان ومصير الرأسمالية

صوت اليونانيون على رفض الشروط التي وضعها الدائنون لاستمرار تقديم القروض، ولا شك أن هذه الخطوة تفتح على وضع جديد قد يؤدي إلى “أزمة عالمية”.

فقد راكمت اليونان ديونا وصلت سنة 2010 إلى 177% قياسا على الناتج القومي، مما يعني أنها باتت على حافة الإفلاس، حيث لم تعد الدولة قادرة على سداد فوائد الديون المتراكمة، وبالتالي باتت بحاجة إلى مساعدة من أجل تجاوز أزمتها.

أدى هذا الأمر إلى قبول صندوق النقد الدولي والاتحاد الأوروبي والبنوك الدائنة سنة 2012 بتقديم قروض جديدة لتجاوز الأزمة، لكنها فرضت على اليونان (كما فرضت على إسبانيا) سياسة تقشف شديدة لكي تضمن قدرة الدولة على السداد.

“سياسة التقشف التي فرضها الدائنون أفضت إلى تصاعد الاحتجاجات، وإلى نشوء “ميل يساري” جارف تبلور في توحيد نقابات ومجموعات يسارية مختلفة المشارب، وشباب يساري في حزب سيريزا، الذي خاض الصراع ضد سياسة التقشف”

هذه السياسة التي مورست منذ تلك السنة فرضت انخفاضا شديدا في الوضع المعيشي لطبقات متعددة من العمال والفلاحين والفئات الوسطى وغيرها، ربما وحدها البرجوازية اليونانية لم تتأثر بالأمر.

ولا شك في أن انفجار الأزمة المالية العالمية (والأميركية خصوصا) في سبتمبر/أيلول سنة 2008 قد انعكس على اليونان، فزادت الأزمة في صعوبات الاقتصاد. ولهذا شهدنا تحرّكا عماليا ومن طبقات شعبية قد بدأ سنة 2010 قبيل الثورات العربية، لكنه لم يتطور إلى ثورة.

لكن سياسة التقشف التي فرضها الدائنون أفضت إلى تصاعد الاحتجاجات، وإلى نشوء “ميل يساري” جارف تبلور في توحيد نقابات ومجموعات يسارية مختلفة المشارب، وشباب يساري في حزب سيريزا، الذي خاض الصراع ضد سياسة التقشف. ومن ثم وصل إلى السلطة، وطرح على الاستفتاء شروط الدائنين، لتكون النتيجة هي لا.

التوظيف في المديونية
لم يكن تراكم المديونية على اليونان صدفة، حيث أصبحت المديونية توظيفا رأسماليا، رغم أنه يُطرح حلا لأزمة تعيشها الدول تتعلق بالعجز في الموازنة.

ولا شك أن اليونان كانت تعيش وضعا اقتصاديا صعبا قبل الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي وبعد الحصول على المعايير التي تحددت لهذا الأمر، ولذا ظهر أن الحكومة اليونانية قد “زورت” في الأرقام لكي تحصل على الموافقة على انضمامها، وأيضا يمكن القول إن تواطؤا أوروبيا قد حصل.

ولكن الانضمام نفسه زاد في أزمة اليونان، حيث رفع مستوى المعيشة لكي يوازي الوضع الأوروبي، دون أن ترتفع الأجور بالمستوى ذاته. خصوصا مع سياسة الخصخصة التي جرت، واللبرلة التي عممت بشكل كبير. وزاد هذا الأمر من نسبة الاستدانة، الذي ارتفع إلى مستوى هدد بإفلاس الدولة بعد أن باتت عاجزة عن سداد فوائد ديونها. كل ذلك ضمن “لعبة” ضغطت الطغم المالية لكي تتحقق بالتعاون مع البرجوازية اليونانية.

إن مسألة الاستدانة يجب عدم النظر إليها من زاوية الحاجة الداخلية، حيث يجري عادة تضخيم هذا الأمر لتبرير الاستدانة، بل نتيجة حاجة الطغم المالية إلى التوظيف بعد أن أُشبعت إمكانات التوظيف في الاقتصاد الحقيقي، وبالتالي حدوث تراكم مالي هائل في البنوك والمؤسسات المالية يحتاج إلى تحريك كي لا يتآكل نتيجة التضخم.

وكانت مسألة الديون واحدة من أشكال التوظيف التي حققت أرباحا هائلة، وأوقعت الكثير من دول العالم في مأزق، جعلها تقبل بكل الشروط التي يتصدى لطرحها عادة صندوق النقد الدولي الممثل لتلك الطغم المالية، حيث لا تعود الدولة قادرة على سداد فوائد الديون وليس فقط الديون ذاتها التي تتراكم بشكل متسارع. ولهذا يمكن القول إن ما جرى في اليونان، وكثير من البلدان الأخرى، هو عملية نهب بالتشارك مع البرجوازية المحلية وتسهيلها.

والحل حسبما تطرح الطغم المالية هو فرض التقشف على الشعب من أجل نهب المجتمع كي تظل الأرباح تتراكم لديها، فقد نهب “القطاع العام” عبر الخصخصة، وبيعت كثير من “البنية التحتية” التي كانت تعد جزءا من “الحق العام” (المواصلات والاتصالات والصحة والشواطئ وغيرها)، وأصبح مطلوبا تدمير “الوضع المعيشي” للطبقات الشعبية، من خلال تراجع الأجور، وزيادة الضرائب، وخصخصة ما كان “مباحا” (أو عاما).

“لا شك أن رفض سياسة التقشف، وبالتالي رفض شروط الدائنين، هو بداية لمسار يمكن أن تكون آثاره خطيرة على أوروبا وعلى الاقتصاد العالمي. فهذا الرفض يمكن أن يتطور إلى وقف تسديد فوائد الديون، وربما لخروج اليونان من الاتحاد الأوروبي”

التحول نحو اليسار
كان وضع الطبقات الشعبية اليونانية صعبا، خصوصا منذ الأزمة المالية التي حدثت سنة 2008، لكنها ازدادت صعوبة بشكل لافت بعد فرض التقشف على ضوء الاتفاق مع صندوق النقد الدولي والاتحاد الأوروبي والمؤسسات المالية المقرضة (وهي في الغالب بنوك فرنسية ألمانية) سنة 2012.

وإذا كانت الاحتجاجات قد تفجرت سنة 2010 فقد أخذت تتصاعد بعد الاتفاق، وأصبح واضحا أنه يجب مقاومة تلك السياسة التي تفرض التقشف، ورفض البرجوازية التي حكمت طويلا (سواء باسم اليمين أو اليسار)، وبالتالي تنحية “الطبقة السياسية” التي قادت إلى الكارثة.

لهذا تشكّل حزب سيريزا كتوحيد لمجموعات يسارية مناهضة للتقشف، ورافضة للشروط المملاة على اليونان من قبل الدائنين، وأصبح الحزب بسرعة قوة كبيرة نتيجة النقمة التي أخذت تتشكّل في الشارع اليوناني بسبب تلك السياسة التي زادت في إفقار فئات جديدة، وهددت بتحوّل وضع قطاع كبير من الشعب نحو العجز عن الحصول على المستوى القائم الآن.

وقد أدى هذا الأمر لأن يحصد حزب سيريزا الأصوات التي جعلته الحزب الذي يستحق تشكيل الحكومة، وتهميش الأحزاب القديمة، وإظهار ضعف سياسة الحزب الشيوعي الذي لم يحصل إلا على 6% من الأصوات. وبالتالي، رفض الشروط المملاة عبر الاستفتاء الذي جرى يوم 5/7/ 2015.

رفض سياسة التقشف
لا شك أن رفض سياسة التقشف، وبالتالي رفض شروط الدائنين، هو البداية لمسار يمكن أن تكون آثاره خطيرة على أوروبا وعلى الاقتصاد العالمي. حيث إن هذا الرفض يمكن أن يتطور إلى وقف تسديد فوائد الديون، وإذا ما رد الدائنون بطريقة متشددة فإن الأمر سوف يقود إلى خروج اليونان من الاتحاد الأوروبي، وهو الأمر الذي يعني فقدان الديون نفسها.

هذا احتمال خطير، لأنه يعني احتمال انهيار بنوك أساسية في أوروبا (فرنسية وألمانية)، الأمر الذي سينعكس على مجمل الاقتصاد العالمي، والأميركي خصوصا، مما قد يؤدي إلى أزمة مالية جديدة تهزّ الاقتصاد العالمي. فقد أصبحت البنوك هي نقطة ضعف النمط الرأسمالي، وباتت بحاجة إلى دعم الدول، وهو الأمر الذي يراكم المديونية على الدول المركزية ذاتها، أي أميركا وفرنسا وألمانيا.
وهي في حالة أميركا وصلت إلى حد مرتفع جدا عن السقف، وباتت تتجاوز الناتج القومي. لكن نجاح الشعب اليوناني في رفض الشروط سوف يسمح بتمدد الحالة اليونانية إلى بلدان أخرى تعاني المشكلات نفسها، خصوصا هنا إسبانيا التي تنتظر نجاح حركة بديموس في الانتخابات نهاية السنة، وربما يحدث الأمر نفسه في إيطاليا والبرتغال وبعض بلدان أوروبا الشرقية. حيث إن “حالة التمرّد” اليونانية سوف تشجّع الشعوب الأخرى على التمرّد. وهو الأمر الذي يعني زيادة الأخطار على الطغم المالية الأوروبية، وعلى مجمل الاقتصاد الأوروبي، وعلى الاتحاد الأوروبي الذي سيجد أنه آخذ في التفكك بعد أن نهبت الرأسمالية الألمانية بلدانه. وبالتالي على مجمل الاقتصاد الرأسمالي كما أشرنا.

لهذا ستكون العلاقة بين اليونان والدائنين حساسة، ولا تسمح بتهوّر من قبل هؤلاء، بل يمكن أن تسير الأمور ليس نحو التصعيد بل نحو المناورة “طويلة الأمد” نسبيا. والمراهنة هنا ستكون على تفكك حزب سيريزا نفسه. ولكن ربما تفلت الأمور مع تصاعد الضغوط الشعبية الداخلية بما يفرض على حزب سيريزا التشدد بدل القبول بحل “وسط”.

“ربما تشير استقالة وزير المالية، الذي كان يعتبر الشخص الأكثر تشددا ضد الدائنين، بعد التصويت بـ(لا) على شروط الدائنين، إلى أن الحكومة الجديدة لا تريد الذهاب إلى النهاية في الصراع مع الدائنين، بل تريد تعديل شروط التقشف فقط”

وضع حزب سيريزا
ربما تشير استقالة وزير المالية، الذي كان يعد الشخص الأكثر تشددا ضد الدائنين، بعد التصويت بلا على شروط الدائنين، إلى أن الحكومة الجديدة لا تريد الذهاب إلى النهاية في الصراع مع الدائنين، بل تريد تعديل شروط التقشف فقط. وأعتقد أن ذلك صحيح بشكل ما، حيث إن الحزب الذي قام على سياسة رفضية (أي رفض سياسة التقشف) يحوي تيارات متعددة، بعضها إصلاحي وبعضها متشدد.

فهناك في الحزب من يريد ليس إلغاء الديون فقط بل كذلك مصادرة أموال البرجوازية اليونانية التي كانت وحدها المستفيدة من الديون المتراكمة على اليونان. لكن في المقابل هناك من لا يريد الخروج من الاتحاد الأوروبي، ولا القطع مع الدائنين، بل يريد تخفيف آثار سياسة التقشف على الشعب. ومن هؤلاء رئيس الوزراء نفسه.

بالتالي فإن “لا” التي نتجت عن الاستفتاء لا تعني نهاية الأمر، بل تعني العودة للمناورة مع الدائنين من أجل شروط أفضل. وفي هذه المعادلة سوف يدخل الحزب نتيجة الميل الإصلاحي الذي سوف يفرض نفسه، في تمزقات وانشقاقات، تضعف الحزب كقوة تقاوم سياسة التقشف، وتدفع إلى إعادة صياغة الحكومة بتحالفات جديدة أقل رفضا لتلك السياسة.

ورغم أن ذلك سوف يقود إلى الاتفاق مع الدائنين بشروط “أفضل”، لكنها في الواقع هي نفسها، بحيث لن تلغي تأثيرها على الشعب الذي دخل في حالة من انهيار وضعه المعيشي وفقدانه للحقوق التي تحصّل عليها في السابق، وهو أمر خطير، ولكنه لن يوقف الاندفاع الشعبي نحو اليسار، حيث إن انهيار الوضع المعيشي مع استمرار سياسة التقشف -حتى وإن كانت مخففة- سوف يعزز الميل نحو اليسار، ويدفع نحو التجذير وليس تكيف الشعب مع الأمر الواقع.

في كل الأحوال سوف يؤدي ما حدث في اليونان إلى زيادة تمرّد شعوب أخرى، لكن كذلك إلى تجذّر الصراع في اليونان وفرز القوى أكثر.

لقد مال الشعب اليوناني نحو اليسار، وسوف يتعمق هذا الميل مع زيادة صعوبة وضعه المعيشي. وإذا كان حزب سيريزا لا يمثّل يسارا جذريا الآن فإن تطور الصراع سوف يقود إلى ذلك.

المصدر: الجزيرة

أميركا مع مَنْ في سورية؟

تشير آخر التصريحات الأميركية إلى رفض واشنطن المنطقة العازلة في الشمال السوري، وهو المقترح الذي تطرحه تركيا. وقبلها قررت تدريب “مقاتلين معتدلين” من المعارضة السورية، فقط للحرب ضد داعش، وطلبت ممن وافق على التدريب أن يوقع رسمياً أن مهمته تتمثل في ذلك فقط، ولا علاقة له بالصراع ضد السلطة.
يطرح هذا سؤالاً عن طبيعة موقف الولايات المتحدة من النظام السوري، ومن الصراع في سورية. هل تسعى إلى “إسقاط النظام”، وافتعلت كل هذه “المؤامرة” من أجل ذلك، كما يشير الخطاب الممانع وخطاب النظام نفسه، أم أنها في مكان آخر يظهر الآن واضحاً؟
لم يكن لدى السلطة، واليسار الممانع خلفها، سوى أن يدعيا أن الثورة من فعل “مؤامرة إمبريالية” ضد سورية، “الدولة الممانعة والتي تدعم المقاومة” و”الدولة التنموية التي أبت الانخراط في النمط الرأسمالي”. لم يكن لديها غير هذا الخطاب، على الرغم من أن الموقف الأميركي منذ البدء كان “باهتاً”، ومتردداً. وفي الواقع، عمل على كبح كل محاولة للتدخل من دول إقليمية، وموّه على المعارضة وضللها، وشوش على الثورة عن قصد. فقد رفض تدخل “الناتو” حين طَرحته تركيا وفرنسا، وماطل لكي لا يتحقق التدخل، ونجح. وكان واضحاً أنه يقرر، على الأقل منذ بداية سنة 2012، أن سورية من حصة روسيا في عملية تقاسم عالمي بين إمبرياليات تجري، خصوصاً هنا بين أميركا وروسيا. ومن ثم عملت على تحوير وضع معارضة الخارج لكي تقبل بجنيف1 أساساً للحل، بعد تهميش سيطرة الإخوان المسلمين فيها. وعلى الرغم من أنها دعمت “الإخوان” في دول أخرى، فهي لم تدعمهم في سورية، لأنها لم تكن تفكّر في ترتيب الوضع السوري، أصلاً، بعد أن “انسحبت” من “الشرق الأوسط” الصغير.
وظهر الأمر في منع إيصال سلاح “نوعي” إلى الكتائب المقاتلة، ربما فلت الأمر في الفترة الأخيرة، وجزئياً فقط، لأن منع إيصال مضادات طيران ما زال قائماً، وهو السلاح الأكثر ضرورة لهزيمة السلطة لشلّ قوتها الجوية التي تفرض واشنطن منع انهيارها. وما زالت تمنع تركيا من أن تتدخل مباشرة، وتتقصد إحراجها والضغط عليها.
لهذا، حينما كان يقال إن أميركا تتلطى خلف الفيتو الروسي، حينما كانت موسكو تتشدد لمنع استصدار أي قرار يدين النظام السوري، كانت تتحجج به، لكي لا تظهر موقفها واضحاً، في وضع كانت تريد اللعب فيه على المعارضة خصوصاً، والسماح بالقول إن أميركا مع سقوط بشار. وما يجري الآن من تحويل للصراع من صراع ثورة ضد النظام إلى “حرب ضد داعش” يوضح الهدف الأميركي. باتت تتدخل في سورية من دون أن يعترض الممانعون ولا النظام. على العكس، يجري التأكيد على أولوية الحرب ضد داعش وعلى التنسيق. وهي تفعل ذلك، بالضبط، لأن أولويتها هي أولوية السلطة نفسها، أي سحق الثورة. بعد الثورات العربية لم تعد أولويات أميركا نفسها التي كانت قبلاً (تغيرت أصلاً بعد نجاح أوباما)، فقد أصبح سحق الثورات الهدف الأساس، لأنها تعي أن العالم الرأسمالي في أزمة عميقة لم تحلّ ولن تحل، وبالتالي، سيعني امتداد الثورات، من تونس إلى سورية، مروراً بكل الدول الأخرى، امتدادها إلى العالم. وإذا كانت قد اشتغلت على تدمير فكرة الثورة، منذ نشر خطاب العولمة، فقد أصبحت معنية بعد انفجارها على تدميرها فعلياً، وتشويهها لكي يتكرّس تدمير الفكرة، على أساس أن ذلك سينهي الثورات في عالم بات مختزناً بالثورة.
لا شك أن الممانعين كانوا يضحكون في سرهم، لأنه ظهر أن أميركا في صفهم، وليس في صف الثورة (يعرفون جيداً أنها ليست مؤامرة)، في وضع يشعرون به أن نظامهم في دمشق يسقط، ربما لولا أن أوباما خرج، أخيراً، ليقول بحكومة سورية موحدة لقتال داعش من دون بشار الأسد.

المصدر: العربي الجديد

الثورة في الماركسية

الثورة في الماركسية
(ملاحظات حول منظور لينين عن الثورة)
“من وجهة نظر الماركسية” يجري تحديد معنى الثورة بشروط تتعلق بوجود الحزب الماركسي وقيادته لها، والسعي للقطع مع النمط القائم. ولقد كان هذا الفهم مدخلاً لنقاش طويل ومتعدد ومتشابك، لكن مربك، فيما يتعلق بما جرى في البلدان العربية، هل هي ثورات أم انتفاضات، (ولا نقول مؤامرات لأننا هنا لسنا بصدد البحث في ذلك، رغم أن نفي حدوث الثورات كان يوصل إلى القول بحدوث مؤامرات)؟
يقول لينين ” وبالفعل، ما هي الثورة من وجهة النظر الماركسية؟ إنها هدم بالعنف لبناء فوقي سياسي قديم ولى عهده، وأدى تناقضه مع علاقات الإنتاج الجديدة، في لحظة معينة، إلى إفلاسه” (ص206). هذه الفكرة التي أتت في كتاب “خطتا الاشتراكية الديمقراطية في الثورة الديمقراطية”، تكمل وفق ما يُفهم من منظور لينين بأن تحقيق هذا “الهدم” يفترض وجود حزب بروليتاري. ومن ثم يجري تأسيس “قانون” خاص يتعلق بـ”تقدير الوضع”، وتحديد هل أن ما يجري هو ثورة أم لا؟ فـ “القانون الماركسي” يقول بأن الثورة تعني القطع مع النمط الاقتصادي الاجتماعي القائم، وتأسيس نمط جديد، ولكي يكون ذلك ممكناً لا بدَّ من وجود حزب بروليتاري (أو حزب على العموم). وانطلاقاً من ذلك يجري قياس ما يحدث في الواقع حين يتحرك الشعب، حين يتمرَّد، يريد التغيير. فيُطرح السؤال: هل أن “هدف” هذا الحراك هو القطع مع النمط الاقتصادي؟ وهل أن هذا الحراك هو تحت قيادة حزب ماركسي (أو شيوعي، أو يساري)؟
هذين السؤالين جعلا كل ما جرى، ويجري في البلدان العربية، ليس ثورة. حيث ليس واضحاً أن الشعب يطرح مسألة تغيير النمط الاقتصادي، وما جرى بعد إبعاد الرئيس هو استمرار هذا النمط. ثم أن ما يجري لا يُقاد من قبل حزب ماركسي. لهذا، استخدم البعض مصطلح انتفاضة، على أساس أن الانتفاضة هي “أصغر” من الثورة، هي هبّة جماهيرية، تمرُّد شعبي.
ما يلفت هنا هو كيف يمكن أن يجري اجتزاء فكرة وتحويلها إلى قانون. هذا خطأ منهجي فادح. فلم يعتبر لينين هذه الفكرة قانون، ولسوف نرى تالياً ماذا قصد، وكيف عالج الأمر. هذا الشكل من التعامل مع ما كتب ماركس وإنجلز ولينين وآخرين، هو الذي أنتج “ماركسية” هي في الواقع لا ماركسية، بالضبط لأنها عبر اجتزاء انتقائي تؤسس “منهجية” ترتدّ بالماركسية إلى الخلف، منهجية تُسقط منهجية الماركسية، التي هي الجدل المادي، لمصلحة تحويل بعض النصوص إلى قوانين والى “عقيدة”. ومن ثم هنا سنلمس كيف تجري الإعادة إلى المنطق الصوري، حيث يصبح هذا “القانون” مقياساً للواقع. فالمنطق الصوري ينطلق من “محدِّدات منهجية أولية” يقاس الواقع بها. تصبح هي محدِّد الواقع. وبالتالي يعني ذلك سيادة المثالية من جديد، لأن الفكرة باتت هي التي تحكم الواقع. هنا يجري تأسيس “عقيدة” تُفرض على الواقع، أو تقاس الوقائع بها بشكل ميكانيكي. تصبح الإجابة على أساسها هي نعم أو لا. ويكون الموقف هو مع أو ضد. هذا هو منطق المنطق الصوري، الذي هو “العقل” الرائج، المتوارث، والذي لا زال يستحكم الوعي البشري، خصوصاً في الأطراف. وهو مع تعمم مع “الماركسية السوفيتية” حتى في أوروبا “المتحضرة”.
هل أن معنى الثورة هو كذلك حسب لينين؟ هل قصد لينين ذلك؟
سوف نتناول النص المشار إليه ضمن سياق الكتاب الذي ورد فيه، بالضبط لكي نفهم ما قصد لينين من هذا النص الذي بات “قانوناً” مطلقاً، يجب الالتزام به، والحكم على الواقع الثوري عِبْره.
1)
ورد النص في كتاب مهم كتبه لينين سنة 1905، أي مع بدء ثورة سنة 1905 في روسيا. وربما يشير عنوان الكتاب إلى ما نحن بصدد نقاشه هنا. عنوان الكتاب “خطتا الاشتراكية الديمقراطية في الثورة الديمقراطية”، يناقش فيه الاختلاف الجذري بين البلاشفة والمناشفة في التعاطي مع ثورة سنة 1905. يشير إلى خطة البلاشفة لتعميق الثورة وتجذيرها لكي تقطع مع القيصرية، والى خطة المناشفة التي تريد من الثورة الإصلاح فقط، والقبول بحل لا ينهي الملكية.
هنا لينين يتحدث عن خطة، بالتالي عن مسار يجب أن يلعبه الحزب لتحقيق ذلك القطع. لهذا يجب أن نضع الأمر في سياق رؤية لينين، حيث أنه يتحدث عن “الثورة الديمقراطية”، عن خطة الحزب في الثورة الديمقراطية. ماذا تعني الثورة هنا؟ لينين هنا يتحدث عن مرحلة كاملة، يحددها نظرياً باسم الثورة الديمقراطية (مقابل الثورة الاشتراكية). هو هنا يشير إلى مرحلة كاملة يفرضها الواقع، وتهدف إلى التغيير الاقتصادي الاجتماعي السياسي، بالتالي هدم البناء الفوقي وعلاقات الانتاج. مرحلة تتضمن مهمات، اسماها “المهمات الديمقراطية”، التي تتعلق بإنهاء القيصرية وتطوير المجتمع. هنا معنى الثورة نظري، أي أنه يرتبط بتحليل الواقع والاستنتاج بأن التغيير يجب أن يساوي الثورة، التي تعني القطع مع النمط الاقتصادي الاجتماعي القائم. والذي لن يتحقق إلا بأن تضطلع البروليتاريا بالدور القيادي (ص199). وهو نظري لأنه تصوّر مصاغ من “وجهة نظر ماركسية” بعد دراسة الواقع الروسي، وتحديد المشكلات المجتمعية، والطبقات، ودور كل منها، وما هو مطلوب لتحقيق التطور للوصول إلى الاشتراكية، ومَنْ الطبقات يمكن ويجب أن يحققها. بالتالي هو تجريد الواقع في صيرورته الممكنة من اجل التغيير، ودور الماركسية فيه، وبالتالي خطتها من أجل أن تحقق المهمات الديمقراطية، والانتقال إلى الاشتراكية.
هذه هي وجهة نظر الماركسية في الثورة الديمقراطية، هذا تصور الماركسية لهذه الثورة بالتحديد. وهذا تصور نظري، يتعلق بالإرادة، أي بفاعلية واعية تتحقق من خلال الحزب البروليتاري. ولا شك في أن كل هدف الكتاب هو شرح كيف تكون هذه الفاعلية الواعية لكي تنتصر الثورة. لينين هنا يشير إلى “خطة”، إلى تصور نظري لثورة يجب أن تقطع مع النمط الاقتصادي، لكنه يلمس ان ذلك يفترض وجود تصور للحزب البروليتاري لكيفية تطوير الثورة. ليصل إلى أن على البروليتاريا أن تقودها لكي تحقق مهماتها الجذرية، رغم أنه كان لا يستبعد انتصار الفلاحين (أي البرجوازية)، فهذا خيار كان يشير إليه. ولهذا كان يرى أن انتصار البرجوازية أيضاً ممكن عبر الفلاحين بالتحديد، وهو مفيد، حيث تستطيع البروليتاريا النشاط بشكل افضل من أجل تحقيق الاشتراكية. لكنه يعمل على ربط الفلاحين بالبروليتاريا من أجل أن تنجز الثورة الديمقراطية. كل هذا تصوّر نظري، وبالتالي فإن معنى الثورة هنا نظري، ويتعلق بـ “وجهة النظر الماركسية”، وليس بالثورة التي كانت حينها تجري في الواقع، وكان يطلق عليها: ثورة. رغم أنها دون حزب ولا تطرح القطع.
بالتالي لا يمكن اعتبار هذا المفهوم للثورة، مفهوماً لمعنى الثورة بشكل عام، بل لمعنى الثورة التي يجب أن تحققها البروليتاريا. هذا تصور نظري، كلمة الثورة تعني فيه ما تريده النظرية لها، ما يجب أن تحققه البروليتاريا، لكي تتحقق الثورة بمعنى القطع مع النظام القائم. من ثم لا يجوز أن تعتبر “خطة لينين” هذه نظرية للثورة بشكل عام، أو محدِّدة لمعنى الثورة.
هذا ما سيظهر واضحاً حين تناول كل كتاب لينين.
2)
لينين في الكتاب يتناول ثورة قائمة، ثورة نهضت سنة 1905 في روسيا، والحزب ضعيف، والبروليتاريا ضعيفة، وكان الفلاحون هم أساس الثورة. وهي عفوية، وشعبية، بالتالي. هو يسمي ما حدث في روسيا سنة 1905 ثورة، ويدعو إلى انتفاضة مسلحة فيها، أي تحويلها إلى انتفاضة مسلحة.
هنا نلمس كيف أن كل “شروط لينين” التي تحوّلت إلى “قانون” ليست موجودة على الإطلاق، عدا حزب ضعيف وبروليتاريا ضعيفة، وحزب بلا خطة في الثورة، فرضت أن يعقد المؤتمر بعد بدء الثورة لتحديد الخطة التي يجب أن يعمل الحزب وفقها.
لينين يميّز جيداً بين الموضوعي والذاتي، لهذا يرى أن ثورة قد نشبت، عفوية، شعبية، لكنها ثورة. لهذا يسعى لأن يبلور “الخطة” التي يجب أن يعمل الحزب وفقها لكي تتطور، فالاشتراكية الديمقراطية تريد “تطوير نضال البروليتاريا الطبقي حتى قيامها بالدور القيادي في الثورة الروسية الشعبية الشاملة، أي السير بهذه الثورة إلى دكتاتورية البروليتاريا والفلاحين الديمقراطية” (ص199). لهذا يظهر واضحاً أنه لم يشترط قيادة الحزب منذ البدء، بل ربط ذلك بفاعلية الحزب ذاته، وبخطته، بدوره العملي وليس بادعاء مسبق.
إذن، يعتبر لينين أن الحراك العفوي الشعبي ضد القيصرية ثورة، هي ثورة ضد القيصر. والشعب لم يطرح برنامجاً، وبل طالب بمطالب نتيجة الوضع الذي يعيشه. الفلاحون يريدون الأرض، والعمال يريدون الأجر، والفئات الوسطى تريد مطالب متعددة، والمجتمع يريد إسقاط القيصر. شيء شبيه بوضع الثورات العربية، فهذه هي الثورات العفوية، او الثورات. فقط ثورة اكتوبر قطعت مع النظام القديم، بينما الثورة الفرنسية لم تفعل، وعادت الملكية فيما بعد، والثورة الفرنسية الثانية سنة 1830 كذلك لم تقطع، ربما أدت ثورة 1848 إلى ذلك بعد سيطرة لويس بونابرت مدعوماً بالفلاحين. والثورة الروسية الأولى سنة 1905 فشلت، وثورة شباط/ فبراير سنة 1917 أنهت الملكية لكنها لم تغيّر النمط الاقتصادي.
ولينين ينطلق من أن ما يجري هو ثورة عفوية شعبية، ولم يقل أنها “انتفاضة”، رغم أنه دعا إلى أن تتحوّل إلى انتفاضة مسلحة. ولم يقل أنها ليست ثورة لأنها تفتقد الرؤية التي تسعى إلى القطع مع النمط الاقتصادي، ونتيجة غياب الحزب الذي يقودها. بل قال أن على الحزب أن يعمل جاهداً لقيادتها، وأن يدفعها لكي تقطع مع النمط القائم. هذا خلافه مع المناشفة أصلاً، المناشفة الذين أرادوا الإفادة من الثورة بتحقيق الإصلاح فقط، بينما دفع هو لكي تنتصر سواء من خلال انتصار الفلاحين واستلامهم السلطة، أو قيادة البروليتاريا لها. يقول لينين ” إن البرجوازية عاجزة عن المضي بالثورة الديمقراطية إلى النهاية، في حين أن الفلاحين قادرون على المضي بالثورة إلى النهاية، فينبغي لنا أن نساعدهم في ذلك بكل قوانا” (157/ 158). هنا لينين يعمل “من داخل الثورة” لكي يصل إلى انتصارها، لهذا يحاول أن يدرس الممكنات، وأن يضع التكتيك الضروري لذلك. يقول، وهو يواجه خطاب المناشفة الذي لا يريد للبرجوازية ان تتخلى عن الثورة، “إن نهوض الثورة الروسية الحقيقي لن يبدأ حقاً، و(لـ) إن الثورة لن تبلغ حقاً أوسع مدى ممكن في عهد الانقلاب الديمقراطي البرجوازي إلا حين تنصرف البرجوازية، وحين يضطلع جمهور الفلاحين بدور ثوري نشط، جنباً إلى جنب مع البروليتاريا. ولكي تمضي ثورتنا الديمقراطية إلى النهاية بدأب وانسجام، ينبغي لها أن تعتمد على قوى قادرة أن تشل تذبذب البرجوازية المحتوم (أي قادرة بالضبط “أن تجبرها على الانصراف” – وهذا ما يخشاه أنصار “اليسكرا” القفقاسيون لسؤ تفكيرهم).
ينبغي على البروليتاريا أن تقوم بالانقلاب الديمقراطي إلى النهاية، بأن تضم إليها جماهير الفلاحين، لسحق مقاومة الأوتوقراطية بالقوة، وشل تذبذب البرجوازية. وينبغي على البروليتاريا أن تقوم بالانقلاب الاشتراكي بأن تضم إليها جماهير العناصر نصف البروليتارية من السكان، لسحق مقاومة البرجوازية بالقوة وشل تذبذب الفلاحين والبرجوازية الصغيرة” (ص 158/ 159).
لينين إذن يتعامل مع “ثورة واقعية”، قائمة موضوعياً، ويدرس كيف يمكن أن يؤثر الحزب فيها. هذا هو هدف “خطة” البلاشفة. لقد عملوا لكي يصبح الحزب البلشفي هو قائد الثورة، ودفعوا من أجل أن تقطع مع النظام القديم.
فموضوعياً ما يجري هو ثورة حسب لينين، لهذا يجب على الحزب أن يضع الخطة ويعمل لكي تدفع إلى مداها الأقصى، أي أن تحقق القطع مع النظام القديم، الذي يتحقق عبر “دكتاتورية البروليتاريا والفلاحين الديمقراطية”. هنا يترابط الموضوعي (الثورة الشعبية) مع الذاتي (خطة الحزب وفاعليته). بالتالي تترابط الثورة العفوية الشعبية مع التصور الثوري، وتنتظم العفوية. وهو الأمر الذي يوصل إلى الانتصار. ولأن كل ذلك لم يتوفر في ثورة سنة 1905 فقد فشلت. حتى لم ينتصر الفلاحون.
لهذا فإن منظور لينين لمعنى الثورة لا يتربط بـ “الشروط” تلك، بل أنها شروط من أجل أن تنتصر الثورة. والفارق كبير بين أن تسمى ثورة لوجود قطع مع النظام القائم وبقيادة حزب، وبين أن يكون هذين “الشرطين” اساسيين لنجاح الثورة. وهي مسافة مهمة لفهم أن ما طرحته الماركسية يتعلق بانتصار الثورة وليس بنشوبها.
3)
في هذا المسار يمكن أن نجد تحديدات أخرى لمعنى الثورة في كتابات لينين.
نعود هنا إلى ثورة سنة 1905، حيث قام لينين سنة 1917 بتقديم تقييم لها في ذكرى انفجارها يوم “الأحد الدامي” قبل إثني عشرة سنة (وهذا قبيل ثورة شباط بقليل) حيث “آلاف من العمال، مع العلم أنهم ليسوا اشتراكيين – ديمقراطيين، بل مؤمنون، من توابع القيصر الأمناء، يتدفقون، بقيادة الكاهن غابون، من جميع أنحاء المدينة” إلى قصر الشتاء لتقديم عريضة للقيصرن فأطلق الرصاص عليهم (تقرير عن ثورة 1905، في المختارات في ثلاثة مجلدات، م1 ج2، ص453). ليشير إلى “أن العمال الروس غير المتعلمين في روسيا ما قبل الثورة قد أثبتوا بأفعالهم أنهم أناس مستقيمون استيقظوا للمرة الأولى على الوعي السياسي”، “وفي هذه اليقظة على وجه الضبط، يقظة الجماهير الشعبية الغفيرة على الوعي السياسي والنضال الثوري، تقوم الأهمية التاريخية للثاني والعشرين من كانون الثاني 1905″، في وضع كان التصوّر ينطلق من أنه “ليس في روسيا حتى الآن شعب ثوري” وفق زعيم الإصلاحيين البرجوازيين بيوتر ستروفة، معتقداً أنه ليس “في مستطاع بلد من الفلاحين الأميين أن تلد شعباً ثورياً” (ص455).
ويكمل أنه “كان الحزب الثوري في روسيا يضم حفنة صغيرة من الناس….. بضع مئات من المنظمين الثوريين، بضعة آلاف من أعضاء منظمات محلية، نصف دزينة من المنشورات الثورية التي تصدر مرة واحدة في الشهر على الأكثر تطبع في الخارج” (ص455/456). ويوضّح بأن “الجماهير الغفيرة كانت لا تزال ساذجة جداً، وديعة جداً، ساكنة جداً، مسيحية جداً. وكانت تلتهب بسهولة نسبية، فإن ظلامة ما، وفظاظة صارخة جداً من جانب الضباط,,,,, كان في وسعها أن تثير تمرداً” (ص464). “غدت الحركة شعبية. ولأول مرة في تاريخ روسيا شملت أغلبية المستثمَرين. أما ما نقصها، فهو، من جهة، صلابة الجماهير، عزم الجماهير المصابة كثيراً جداً بمرض سرعة التصديق، ومن جهة أخرى، تنظيم للعمال الاشتراكيين – الديمقراطيين الثوريين باللباس العسكري: فكانت تنقصهم معرفة قيادة الحركة، والسير على رأس الجيش الثوري، وشن الهجوم على السلطة الحكومية” (ص465)
هنا لينين يوصّف واقع ثورة سنة 1905، التي كان الحزب فيها ضعيفاً، والبروليتاريا كذلك، ووضع فلاحي متخلف. وفي تصاعد عفوي لحراك شعبي كبير. وهو الواقع الذي اختلف البلاشفة والمناشفة حول الخطة الضرورية لتطويرة لكي تنتصر البروليتاريا.
في كتابات أخرى يبدا لينين بالإشارة إلى أن انفجار الثورة هو ليس من فعل حزب، بل نتاج ظرف موضوعي، يؤسس لتراكم يقود إلى الثورة. يقول “تتحقق الثورات في لحظات تفجر جميع الطاقات البشرية وتوترها لدرجة كبيرة، وهي تتحقق بوعي وإرادة وعواطف وتخيلات عشرات الملايين المدفوعة بأحدّ نضال بين الطبقات” (مرض “اليسارية” الطفولي في الشيوعية” طبعة دار التقدم ص107). ويقول “نتحدث عن ذلك الباعث الذي سيوقظ الجماهير البروليتارية التي لا تزال راقدة الآن، ويدفعها للحركة ويسوقها مباشرة نحو الثورة”، ويكمل “كان يكفي أن يقوم باعث –مفاجئ – و-طفيف-، هو واحد من ألوف الألوف من المكائد الدنيئة التي تصنعها الطغمة العسكرية الرجعية …… ليضع الشعب على شفير حرب أهلية” (ص 109/ 110، والنص يتناول فرنسا نهاية القرن التاسع عشر، ويشير إلى قضية درايفوس).
هو هنا يتحدث عن الانفجار العفوي تماماً، ومن قبل الملايين بالضبط. هذه هي الثورة.
لينين يشرح ذلك في مكان آخر. مثلاً في كراس “افلاس الأممية الثانية”.
يقول “إن الماركسي لا يشك في أن الثورة مستحيلة دون وضع ثوري، ولكن ليس كل وضع ثوري يؤدي إلى الثورة. فما هي بعامة دلائل الوضع الثوري؟ يقيناً أننا لن نخطئ إذا أشرنا إلى الدلائل الرئيسية الثلاث التالية: 1- أن يستحيل على الطبقات السائدة الاحتفاظ بسيادتها دون أي تغيير، أن تنشب هذه الأزمة أو تلك في “القمة”، أي أن تنشب أزمة في سياسة الطبقة السائدة، تسفر عن تصدع يتدفق منه استياء الطبقات المضطهَدة وغضبها. فلكي تتفجر الثورة، لا يكفي عادة “ألا تريد القاعدة بعد الآن” أن تعيش كما في السابق، بل ينبغي أيضاً “ألا تستطيع القمة ذلك”. 2- أن يتفاقم بؤس الطبقات المضطهَدة ويشتد شقاؤها أكثر من المألوف. 3- أن يتعاظم كثيراً، للأسباب المشار إليها آنفاً، نشاط الجماهير التي تستسلم للنهب بهدوء في زمن “السلم”، ولكن التي تدفعها، في زمن العاصفة، سواء أجواء الأزمة كلها أم “القمة” نفسها إلى القيام بنشاط تاريخي مستقل” (ص 13- 14).
وعن السؤال حول هل يؤدي الوضع إلى الثورة؟
“إننا نجهل هذا الأمر، وما من أحد يستطيع أن يعرفه. ولن يبينه غير تجربة تطور الأمزجة الثورية وانتقال الطبقة الطليعية، أي البروليتاريا، إلى الأعمال الثورية. فلا مجال هنا لأية “أوهام” بوجه عام، ولا لدحضها، لأنه ما من اشتراكي ضمن في أي مكان من العالم وفي أي فترة من الزمان بأن الثورة تنشأ على وجه الضبط من الحرب الحالية (لا من الحرب المقبلة) ، وعلى وجه الضبط من الوضع الثوري الحالي (لا من الوضع المقبل). والكلام هنا يدور حول واجب الاشتراكيين، الثابت تماماً، والأساسي كلياً، إلا وهو واجب أن يبينوا للجماهير وجود وضع ثوري، ويوضحوا مداه وعمقه، ويوقظوا وعي البروليتاريا الثوري وعزيمتها الثورية. ويساعدوها على الانتقال إلى الأعمال الثورية، وينشئوا منظمات تتلاءم والوضع الثوري من أجل العمل في هذا السبيل”. ….. “ولذا فإن عدم قيام الأحزاب الحالية بواجبها هذا إنما يعني خيانتها، وموتها السياسي، وتنازلها عن دورها، وانتقالها إلى جانب البرجوازية” (ص17- 18).
ويستند إلى كاوتسكي في دحضه، حيث يقول:
“ففي 1909 اعترف كاوتسكي في كراسه “طريق السلطة” بتفاقم تناقضات الرأسمالية واقتراب مرحلة من الحروب والثورات، “مرحلة ثورية” جديدة، الأمر الذي لم يفنده أحد ولا يمكن تفنيده. وقد قال أنه لا يمكن أن تقع ثورة “سابقة لأوانها” ووصم “بالخيانة المباشرة لقضيتنا” رفض حسبان الحساب لإمكان الانتصار في الثورة، رغم أنه لا يمكن، قبل شن النضال، إنكار إمكان الهزيمة أيضاً” (ص41). “بيد أن خصوم كاوتسكي اليساريين يعلمون تمام العلم أنه لا يمكن “صنع” الثورة، وأن الثورات تنشأ من الأزمات والانعطافات التاريخية التي نضجت موضوعياً (بصرف النظر عن إرادة الأحزاب والطبقات)، وأن الجماهير، بدون منظمة، تكون محرومة من وحدة الإرادة، وأن النضال ضد المنظمة العسكرية والإرهابية القوية للدولة الممركزة، أمر صعب وطويل النفس” (ص54).
“وإذا ما اشتد الغضب واليأس في الجماهير، إذا نشأ وضع ثوري، فاستعدّ لتأسيس منظمات جديدة ولاستعمال أجهزة الموت والدمار (التي تملكها الدولة، س) هذه الجزيلة الفائدة ضد حكومتك وبرجوازيتك” (ص74).
“ليس بوسعنا أن نعرف ما إذا كانت ستقوم حركة ثورية جبارة بعد هذه الحرب (الحرب الأولى)، أم خلالها، ألخ…، إلا أن العمل الذي يجري في هذا السبيل إنما هو، على كل حال، العمل الوحيد الذي يستحق أن يدعى بالعمل الاشتراكي (أي العمل من أجل تحويل الحرب إلى ثورة). والشعار الذي يعمم هذا العمل ويوجهه، ويساعد في توحيد وشدّ لحمة الذين يريدون مساعدة نضال البروليتاريا الثوري ضد حكومتها وبرجوازيتها، إنما هو شعار الحرب الأهلية” (ص80).
هنا يربط بين الوضع الثوري الذي يمكن ألا يؤدي إلى ثورة، ومهمات الماركسية التي عليها أن تعمل من اجل “تحريك” الشعب. عليها الشغل من أجل الثورة. وإذا قامت الثورة في لحظة ما فإن على الماركسيين أن ينظموا نضالهم فيها من اجل أن تفضي إلى الانتصار.
4)
إذن، لينين يسمي كل تمرّد عفوي شعبي ضد النظام ثورة. لكنه لا يكتفي بذلك بل يعتبر أن على الحزب الماركسي الثوري أن ينخرط فيها وأن يسعى لبناء “التحالفات”، وتحديد التكتيكات، وأن يطوّر فاعليته لكي يقودها، وفق “الخطة” التي طرحت حينها الوصول إلى “دكتاتورية العمال والفلاحين”، لأن ذلك هو ضمانة القطع مع النظام القديم. لم يتشوش لينين في تسمية ما حدث سنة 1905 ثورة، ولم يقف مناكفاً، هل هي ثورة ام انتفاضة، ام “مؤامرة” من القوى الإمبريالية؟ وهو يعرف، ولقد حدَّد بدقة الوضع الذي يقود إلى الثورة، ومن ثم حدَّد “الخطة” الضرورية لكي تتطور الثورة، وعلى أمل أن تنتصر. لكن وضع البروليتاريا الضعيف، وضعف الحزب (وانشقاقه)، وغلبة الفلاحين الذين لم يكونوا يمتلكون قيادة (حتى حزب الفلاحين، أي الاشتراكيين الثوريين، لم يكن قوة تستطيع لعب دور القيادة كما يشير لينين ذاته)، كل ذلك أفضى إلى فشل الثورة. بالتالي، إن غياب الحزب هو الذي أدى بالثورة إلى الفشل، هذا صحيح، لكنها كانت ثورة. أي ثورة بلا هدف (مصاغ في برنامج) يشير إلى القطع مع النظام القديم (القيصري)، وبلا حزب ماركسي بروليتاري ثوري يقود.
هذه المسافة بين الموضوعي (نضج الثورة وانفجارها) والذاتي (الحزب الماركسي) هي التي عمل لينين والحزب البلشفي على جسرها طيلة سنوات 1907 (أي سنة فشل الثورة) وسنة 1917، حيث قادت التكتيكات الثورية التي عمل الحزب على أساسها إلى أن يصبح قوة قادرة على القيادة، وأن يكسب البروليتاريا والفلاحين. هنا من حوّل الثورة من ثورة عفوية شعبية، والحزب من حزب ضعيف، هو ما أسماه لينين “الخطة”، أي التصوّر الذي طرحه البلاشفة في الثورة، وبعد الثورة (في مرحلة الجزر الرجعي)، ومن ثم في مرحلة النهوض الجديد خلال وبعد الحرب العالمية الأولى. هذه السياسة الفعلية الممارسة مع البروليتاريا والفلاحين الفقراء، هي التي أفضت أن “تتحقق الشروط” التي يريد “ماركسيينا العظام” أن نعتبر أنها قانون على ضوئه علينا أن نحدِّد أن ما حدث ثورة أو انتفاضة. ولهذا بدل الفهم المادي الجدلي للواقع وآليات تحويله، وبدل الخوض في معمعان الثورة للتأثير في مسارها، يتعاملون ميكانيكياً مع أفكار حوّلوها إلى قوانين، وطبقوها في غير موضعها.
لقد أخذ هؤلاء “الماركسيين العظام” “شروط لينين” لـ “الثورة”، وطبقوها ميكانيكياً على واقع الثورات العربية، فبانت انها ليست ثورات. لكن حتى وإن طبقوها على ثورة سنة 1905 في روسيا فسيصلون إلى استنتاج أنها ليست ثورة. وإن طبقوها على الثورة الفرنسية لن تكون ثورة، حيث لم تقطع مع النظام القديم الذي عاد بعد سنوات قليلة. فقط ثورة اكتوبر ستكون ثورةن هي الثورة الوحيدة. وسنشير إلى أن سبب ذلك هو أن الثورة بالنسبة لهم هو ما تحقق في ثورة أكتوبر، أي وجود حزب بروليتاري سيطر على السلطة وألغى النظام القديم بكليته. ولأن المنظور الميكانيكي يتحكم في عقولهم لم يروا كل النحت الذي قام به الحزب البلشفي منذ نهاية القرن التاسع عشر، وفي ثورة سنة 1905، وبعدها، لكي يكون ممكناً تحقيق هذه الثورة البروليتارية. فإخذوا بـ “النتيجة” ونسوا كل التسلسل الذي عبّر عن فعل شاق، واقعي، من أجل أن تتحقق الثورة بهذا الشكل. وأصبحت النتيجة “قانوناً” يحكم كل ثورة، أو أنها لا ترقى إلى مستوى الثورةن او لا تكون ثورة.
هنا ما يفعله هؤلاء “العظام” هو أن يلغوا المسافة بين “شروط” تفجّر الثورة و”شروط” انتصارها، ويتجاهلون تماماً “فعل الذات”، أي البروليتاريا، والحزب البروليتاري، والماركسي الثوري، الذي هو وحده سيؤسس لأن تنتصر الثورة. وبدل ذلك، أي بدل رؤية المسافة بين الموضوعي (الثورة) والذاتي (الحزب الماركسي)، التي تفرض الممارسة (البراكسس حسب قول غرامشي) من أجل تشكّل المركب الذي يسمح بالانتصار (أي اندماج الحزب في الجماهير، وقيادتها عبر فعله العملي وسياسته الصحيحة)، بدل ذلك، وهو الأمر الذي يفرض “العمل الشاق”، يجري هؤلاء مطابقة بين الموضوعي والذاتي، عبرها يجري الحكم على الموضوعي بمنظور الذاتي. أي تصبح “الخطة” (أي الرؤية) هي التي يقاس الواقع بها، ليس من أجل الفعل والنحت بين الجماهير، بل من أجل الحكم على الواقع. ليصبح التصور هو (تصبح الرؤية هي) ما يحكم الواقع، حيث يجب ان يجري وفقه/ها.
هذا هو المنطق الصوري بالضبط، الذي يقوم على تحديد الأشياء بشكل سكوني وجامد، وأحادي، ومن ثم يصبح المطلوب هو الحكم انطلاقاً من هذا التحديد، الذي يصبح “قانوناً” يجري الاحتكام إليه، أي يجري “القياس عليه”. الصيرورة هنا غائبة بكل تناقضاتها وتفاعلاتها، ونقصها ومشكلاتها. ودور الذات بات محدَّداً في “اصدار الأحكام”، في الحكم وفق “مسطرة جاهزة” على الواقع. هذا منظور ذاتي بالتأكيد، ويعبّر عن سيادة المثالية الذاتية لدى قطاع كبير ممن يعتقدون انهم ماركسيين، فقط لأنهم يدعون ذلك، أو لأنهم يكررون كلمات وجملاً وأفكار ومصطلحات قالها ماركس أو إنجلز أو لينين أو تروتسكي.
لقد حلوا الأمر حين نشبت الثورات، وكان يجب أن يكونوا معها ويعملوا في خضمها بعد أن كرروا كلمة الثورة ملايين المرات، و”زاودوا” على كل الآخرين، حلو الأمر لفظياً، عبر “الثورية اللفظية” التي تبجّل الكلمات، لكنها تضع العراقيل أمام كل خطوة عملية. بالتالي حسموا الأمر بـ “قانون” يوصل إلى أن ما يجري ليس ثورة، وبالتالي لا تستحق المشاركة فيها، أو أخذها على محمل الجدّ. كل ذلك بدل الانخراط فيها، بدل النحت في الواقع، مع الجماهير الثائرة، خلال الثورة (وقبلها كذلك) من أجل أن تكون البروليتاريا (التي يتمسحون بها بفجاجة) هي القيادة الفعلية لها، وبالتالي أن يكون ممكناً تحقيق “الشرط” الثاني بتحقيق القطع مع النظام القديم، عبر انتصار الثورة.
نلمس بالتالي كيف أن اللفظية الثورية تحجب العمل، وتؤسس لسدٍّ عالٍ وسميك أمام كل فعل ثوري. عكس ما طرحه لينين والبلاشفة تماماً، حيث حددوا دورهم في الثورة، وكيف يمكن أن تقاد من قبل البروليتاريا وتنتصر. فالمسافة بين انفجار الثورة وانتصارها يتعلق بفعل الماركسيين الثوريين، ولا يتعلق بأن الثورة منذ البدء كان يجب أن تسير وفق مخطط نظري. فهذا المخطط يترجم عبر الفعل في الثورة من أجل أن تصبح البروليتاريا هي القيادة لكي تحققه. الممارسة، بالتالي، مفقودة لدى “ماركسيينا العظام”، البراكسيس غائب عن تفكيرهم. دورهم “نظري” أو “إعلامي”، يميل لأن يكون “قاضياً”، أو حكماً، أو يمارس الإجابة بنعم أو بلا من مقعده. بالتالي هم فئات برجوازية صغيرة تحب الثرثرة، لهذا تغالي في “التشدد النظري” لكي تخفي هروبها من الفعل الثوري. فلم تبنِ قبل الثورات ما يسمح لأن يكون هناك حزب ثوري يستطيع قيادة الثورة حين تحدث، وأصلاً لم يكونوا يثقون بأن الشعب يمكن أن يقوم بالثورة، حيث أن “تشددهم النظري” جعلهم يتعالون على الشعب، ويتلمسون تخلفه وجهله ولا مبالاته وركوده، دون أن يلمسوا أنه يعيش حالة سحق عنيفة، نتيجة الاستغلال والبطالة والفقر والتهميش، وأن هذه الوضعية سوف تدفعه للثورة بالضرورة (وأقول بالحتمية كما أشرت سنة 2007)، بالتالي لا بد من التأسيس النظري والعملي الذي يسمح بأن يلعب هؤلاء “الماركسيين العظام” الدور الذي يفرضه بناء حزب يحترم ذاته، ويعتبر أنه يناضل من أجل العمال والفلاحين الفقراء وكل المفقرين. دور المحرِّض والمنظم والمنتج للتصورات والأفكار التي تخدم تطور الصراع الطبقي، وتجعل العمال والفلاحون الفقراء قادرون على أن يقودوا الثورة وأن ينتصروا.